الشمال السوري و”محور الحرب الدائمة”
أحمد حسن
في المرحلة القادمة، سيقال، ويكتب، الكثير عمّا حدث في الشمال السوري، لكن أغلبه، وخاصة التصريحات السياسية الرسمية للمشاركين في العدوان، سيكون غائماً، وبعضه سيكون مخادعاً، لأن دور تصريحاتهم هو التعمية وليس الفضح، إشاعة الغموض وليس كشف ستره، لكن هذه التصريحات لن تصمد لحظة واحدة في عالم لم تعد فيه أسرار مغلقة أمام أحد.
ذلك مثلاً هو حال تصريح هاكان فيدان، وزير خارجية تركيا ومدير مخابراتها حتى شهور قليلة مضت، الذي تحدّث بلسان ولي أمره، أردوغان، متنصّلاً من دور بلاده “في الصراعات الدائرة في حلب”، مؤكّداً أن “شريان حياة الجماعات الإرهابية في المنطقة في أيدي الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يمكن أن يستمروا حتى ثلاثة أيام دون دعمها”!! فهو تصريح كاذب في شق، وصادق في آخر، وهذا الكذب و”الصدق” في جملة واحدة يكشفان معاً دوره، وبلاده، في الجريمة، ويكشفان، بالتالي، تبعيّته الكاملة للسيّد الأمريكي ولخططه ورؤيته – الإمبريالية المركزية بصبغتها الصهيونية المتطرفة – للمنطقة وللعالم أيضاً، فهذا “الشريان” الذي يتحدث عنه يمتد، وتحديداً في الشمال السوري، من أنقرة حتى ادلب، وتحميه قوى العدوان التركي التي تتغطى بدورها بقوى العدوان الأمريكي ليشكلا صورة التابع والمتبوع الذي سارع فوراً لفتح جبهة حلب للرد على “التخثّر” الحاصل في “الشريانين” الممتدين من المركز في واشنطن إلى الأطراف في “تل أبيب” و”كييف”.
بهذا الإطار نفهم كيف تراصفت قوى محور الحرب الدائمة وتوزّعت تنفيذ الأدوار، فحين صدر الأمر الأمريكي بنقل الحرب إلى سورية على لسان نتنياهو مساء يوم الثلاثاء الماضي، امتثل التابع التركي صباح الأربعاء، عبر جنوده في تنظيم “القاعدة”، “مبتلعاً” في الطريق كل التزاماته “الجانبية” التي وقّع عليها شخصياً مع الجانب الروسي والإيراني، سواء في “الآستانة” أو “سوتشي”، بخصوص إخراج جميع “الجماعات المُسلّحة” من مدينة إدلب وريفها.
بهذا المعنى يمكن الكشف عن تموضع المعركة الجديدة في سياقها الطبيعي، سياق الحرب الدائمة الضرورية للرأسمالية في مختلف أطوارها وخاصة طورها المالي “الكلبي” الحالي، وبهذا نفهم بعض المفارقات اللافتة مثل قيام الرئيس الأمريكي جو بايدن بالعفو عن “ديكين” مرة واحدة كي لا يكونا “وجبته” في عيد الشكر الأخير له في البيت الأبيض، فيما تناول، وفريقه في واشنطن وتل أبيب – مجازياً وفعلياً – مئات آلاف الضحايا الفلسطينيين واللبنانيين مودعاً بهما “بيته الأبيض”، ومسلّماً في الآن ذاته “وجبة” أخرى من السوريين للساكن الشره القادم إلى هناك، كما نفهم سكوت “جبهة النصرة”، بصبغتها المزعومة “دينية”، والكاذبة فعلياً، عن نصرة “غزة”، وغياب أي اهتمام بالجزء الجنوبي للشام، لبنان وفلسطين، عن “جبهة تحرير الشام”، وقيام كل “دعاة الجهاد” ببلع ألسنتهم أمام “الطوفان”، فالعفو عن “الديكين” مثلاً هو الصورة المرحة والجميلة للرأسمالية بينما التهام البشر هو الوجبة الضرورية لآلتها الجهنمية كي تستمر وتعيش، وصمت “النصرة” وأتباعها ودعاتها، عن فلسطين نابع من حقيقة أنهم فعلياً نتاج هذه الرأسمالية ذاتها – التي نهلت، واستثمرت، من رواسب مظلمة في تاريخنا – في مرحلة مواجهة “العدو” الشيوعي والمد القومي العربي أيضاً.
خلاصة القول.. معركة الشمال السوري اليوم هي إحدى معارك فكرة الحرب الدائمة التي تمثل مطلباً ومخرجاً واستثماراً مادياً للرأسمالية وقادتها في الآن ذاته، لذلك فإن سيرورتها، وصيرورتها، لا يجب أن تعني سورية فقط بقدر ما يجب أن تعني “الآخرين”، أيضاً، إذا كانوا باحثين فعلياً عن مكان تحت الشمس، فهي – أي فكرة الحرب الدائمة – صورة التاريخ الحقيقية التي تقول إن السلام هو مجرد هدنة بين حربين، وذلك درس يجب أن نستظهره جميعاً ليلاً نهاراً فقط لا غير.