على مسافة قصيرة من البيت الأبيض تنتهك القرارات الدولية
سمر سامي السمارة
على مسافة قصيرة من البيت الأبيض الذي يرأسه بايدن، تقع منظمة “فريدوم هاوس” التي تأسست عام 1941 وتمولها وزارة الخارجية الأمريكية، والتي تصدر في كل عام مؤشرها للحرية في العالم، الذي يستخدم نقاط بيانات مختلفة لتحديد ما إذا كانت دولة ما “حرة” أو “حرة جزئياً” أو “لا تتمتع بالحرية”.
وفقاً للمؤشر الذي تصدره، بات واضحاً أنها ترى خصوم الولايات المتحدة – مثل الصين وكوبا وإيران وكوريا الديمقراطية وروسيا – دولاً لا تتمتع بالحرية، حتى لو كانت لديها عمليات انتخابية وهيئات تشريعية من مختلف الهيئات، ففي الانتخابات التشريعية الإيرانية لعام 2024 على سبيل المثال، ترشح 15200 مرشح لشغل 290 مقعداً في الجمعية الاستشارية، بينما في العام الماضي في كوبا، تم انتخاب 470 مقعداً في الجمعية الوطنية للسلطة الشعبية من قبل 75.87٪ من الناخبين المؤهلين. وفي الوقت نفسه، منح مؤشر 2024 “إسرائيل”، درجة حرية عالمية بلغت 74/100 معلناً أنها “الدولة الحرة” الوحيدة في المنطقة، ذلك، على الرغم من أن القادة السياسيين في “إسرائيل” مارسوا التمييز ضد الفلسطينيين، ما أدى إلى تباينات منهجية في مجالات تشمل البنية التحتية والعدالة الجنائية والتعليم والفرص الاقتصادية.
ووفقاً لقياسات هذا المؤشر الممول من وزارة الخارجية الأمريكية، والذي يستخدم بشكل روتيني لانتقاد البلدان في جميع أنحاء العالم التي تعتبرها غير حرة، فإن نظام الفصل العنصري المبني على الاحتلال والآن الإبادة الجماعية يُعتبر ديمقراطية مثالية.
إن المؤشرات، مثل المؤشر الذي أصدرته منظمة “فريدوم هاوس”، ليست بريئة كما قد تبدو، فتصميم المؤشر بني على التقييمات الشخصية للمحللين والمستشارين الذين تم اختيارهم من عالم مراكز الفكر الغربية التي تقدم نتائج غالباً ما تكون مقررة سلفاً. وفي حين تزعم منظمة “فريدوم هاوس” أنها تستقي من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي أبرم 1966، فإنها تتجاهل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ذلك أنه يستلزم فهم الديمقراطية على نحو أكبر من مجرد عقد الانتخابات ووجود أحزاب سياسية متعددة، فالمادة 11 من العهد الثاني وحدها كفيلة بتوسيع فكرة الديمقراطية لتشمل الحق في السكن والحق في التحرر من الجوع.
وكما تشير المادة / 4/ فإن الغرض من العهد الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هو تعزيز الرفاه العام في مجتمع ديمقراطي، وهنا تُستخدم الديمقراطية بفهم يتجاوز كثيراً الانتخابات البسيطة. وحتى فيما يتعلق بالانتخابات، لا يوجد قلق يذكر في مؤشر “فريدوم هاوس” بشأن معدلات الامتناع المرتفعة في الديمقراطيات الليبرالية وانهيار ثقافة إعلامية نابضة بالحياة لمحاسبة الأحزاب السياسية والقادة.
ولكن ما الذي يهم أولئك الذين يقفون وراء مثل هذه المؤشرات؟ في الواقع، إنهم يعتقدون أنهم سادة الكون، فقد كانت ردود الفعل على لائحة اتهام المحكمة الجنائية الدولية من الولايات المتحدة وألمانيا – الدولتان اللتان لديهما أكبر عمليات نقل للأسلحة إلى “إسرائيل” خلال هذه الإبادة الجماعية متوقعة، لكنها صادمة مع ذلك. ويؤكد رد فعل بايدن المتغطرس أن الولايات المتحدة إما لا تفهم أو لا تهتم بخطورة قسوتها، وأن الولايات المتحدة تفشل في إدراك أن رفضها لمذكرات المحكمة الجنائية الدولية هو المسمار الأخير في نعش ما يُسمى “النظام الدولي القائم على القواعد” للولايات المتحدة.
قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024، قالت إدارة بايدن إنه يتعين على “إسرائيل” السماح بدخول المساعدات إلى غزة في غضون ثلاثين يوماً وإلا فإنها ستواجه تجميداً للأسلحة، لكن الحقيقة، أن هذا الموعد النهائي جاء وانتهى دون أن يحدث قلقاً، ما يؤكد أن “النظام الدولي القائم على القواعد” كان دوماً أشبه بالمهزلة.
ففي عام 2002، أثناء الحرب التي ادعت الولايات المتحدة أنها ضد الإرهاب، ناقش الكونغرس الأميركي إمكانية توجيه اتهامات إلى جندي أميركي أو عميل في وكالة الاستخبارات المركزية بارتكاب جريمة حرب، ولتحصين هذا الجندي أو العميل، أقر الكونغرس قانون حماية العسكريين الأميركيين، الذي أطلق عليه على نطاق واسع قانون “غزو لاهاي”.
بالرغم من أن القانون لا ينص على أنه بوسع الولايات المتحدة غزو هولندا لتحرير أفرادها من المحكمة الجنائية الدولية، فإنه ينص على أن رئيس الولايات المتحدة “مخول باستخدام كل الوسائل الضرورية والمناسبة لإطلاق سراح أي شخص… محتجز أو مسجون من قبل المحكمة الجنائية الدولية أو نيابة عنها أو بناء على طلبها”. وفي وقت إقرار هذا القانون، انسحبت الولايات المتحدة رسمياً من نظام روما المبرم عام 1998 الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية.
استشهد كل من السناتورين الأميركيين توم كوتون، وليندسي غراهام بقانون لاهاي للغزو رداً على إصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق نتنياهو وغالانت، وذهب غراهام إلى حد القول إن مجلس الشيوخ الأميركي يجب أن يفرض عقوبات، حتى على حلفاء مثل كندا، لتجرأهم على الإيحاء بأنهم سيؤيدون أوامر الاعتقال.
إذا ألقت الولايات المتحدة أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية في مهب الريح، فإنها بذلك تؤكد للعالم بشكل قاطع أنها لا تؤمن بالقواعد، أو أن القواعد وضعت فقط لتأديب الآخرين وليس نفسها. ومن المثير للدهشة أن الولايات المتحدة لم توقع أو لم تصدق على قائمة المعاهدات الدولية عليها قط، ومن الأمثلة الكثيرة التي تثبت تجاهلها للنظام الدولي الحقيقي القائم على القواعد.
على سبيل المثال، اتفاقية قمع الاتجار بالأشخاص، والتي لم توقع عليها قط، الاتفاقية الخاصة بوضع اللاجئين 1951، اتفاقية مناهضة التمييز في التعليم 1960، اتفاقية عدم سريان التقادم القانوني على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية 1968،اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982، اتفاقية بازل بشأن التحكم في نقل النفايات الخطرة عبر الحدود والتخلص منها 1989، والتي تم التوقيع عليها ولكن لم يتم التصديق عليها قط، اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة 2006، تم التوقيع عليها ولكن لم يتم التصديق عليها قط.
ولعل أكثر ما يثير الرعب هو اتفاقيات ضبط الأسلحة التي رفضت الولايات المتحدة التوقيع عليها أو انسحبت منها من جانب واحد، ومعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية 1972، انسحبت منها في عام 2002، ومعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى 1987 انسحبت منها في عام 2019، ومعاهدة حظر الألغام 1997، لم توقع عليها قط، و اتفاقية الذخائر العنقودية 2008 لم توقع عليها قط، ومعاهدة تجارة الأسلحة 2013 وقعت عليها لكنها انسحبت منها في عام 2019.
لقد اشتعل الصراع حول أوكرانيا بسبب انسحاب الولايات المتحدة من جانب واحد من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية ومعاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، وقد أوضحت روسيا في عدة مناسبات أن غياب أي نظام لضبط الأسلحة فيما يتعلق بالصواريخ النووية متوسطة المدى من شأنه أن يشكل تهديداً لمدنها الكبرى، إذا انضمت جيرانها إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
في الثامن عشر من تشرين الثاني الماضي، وفي خطوة استفزازية وخطيرة، سمح بايدن لأوكرانيا باستخدام صواريخ متوسطة المدى لضرب الأراضي الروسية، ولو قررت روسيا إطلاق أحد تلك الصواريخ على قاعدة أمريكية في ألمانيا رداً على ذلك، على سبيل المثال، لكان العالم بالفعل في خضم شتاء نووي.
إن تجاهل الولايات المتحدة لنظام ضبط الأسلحة ليس سوى جزء من تجاهلها المطلق لأي قانون دولي، والذي تم تأكيده أمام المحكمة الجنائية الدولية مؤخراً.