شخصيات دمشقية ظريفة
أمينة عباس
لا يميل عادةً إلى هذا النوع من المحاضرات، فمحاضراته كلها عن الشعر الصوفي والأدب والموسيقا والمرأة والأعلام والأمكنة، لكن نصيحة الشاعر عمر الحلبي للباحث د. أنس تللو هي أن يذكر في محاضراته طرفة لكي لا يمل الجمهور ويجعله يستجيب إليه، وعندما لاحظ بعد ذلك استحسان وإقبال بعض المستمعين إلى الاستماع إلى الطرفة أكثر من رغبتهم في الاستماع إلى الشعر والأدب قاده ذلك إلى السير مع هذا الركب وقد وجد نفسه يقدم محاضرة كاملة عن الشخصيات الدمشقية الظريفة ألقاها، مؤخراً، بدعوة من “جمعية أصدقاء دمشق” في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة، مبيناً في بدايتها أن “الشعب السوري من أوائل الشعوب التي تتذوق الدعابة والطرفة، وأهلُ دمشق بالذات يعشقون الطرفة ويلتفون حول من يتقنها، ويحبون السهرات والليالي الملاح، وقد كانوا يجتمعون للإصغاء إلى النكات والنوادر في سهرات تبدأ عند المساء ولا تنتهي إلا عند منتصف الليل”.
يتناول تللو في محاضرته أشخاصاً كانوا على قيد الحياة منذ أكثر من سبعين عاماً في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ولم يتح لهم ولفنّهم أن ينتشر في وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة “ولو أنهم عاشوا إلى اليوم لسبقوا الكثيرين من رجالات الكوميديا في العالم العربي الذين تقمصوا شخصية واحدة وقد كانوا من الظرفاء البسطاء الذين كانوا يرتجلون النكتة في موقعها وزمانها المناسب ويقولونها للشخص المناسب، في حين أن الكاتب كان يجلس خلف المكتب ساعات ينتظر أن تواتيه القريحة، وهذا يعني أن الطرافة والظرافة موهبة إلهية فطرية ولا يمكن اكتسابها بالتدريب”.
من بين هؤلاء الظرفاء الذين تحدث عنهم أنس تللو الشاعر فخري البارودي الذي كان في طليعة هؤلاء لما عُرِف عنه من سرعة البديهة والنكتة الحاضرة، يليه رفيق دربه حسني تللو “وقد كان هذان الشخصان يشكلان توأماً روحياً، وكانا يلتقيان كل يوم مساء في بيت فخري البارودي في منطقة القنوات، ويجلس كل منهم في رأس الطاولة والناس تأتي وتجلس على طرفي الطاولة تترقب كلمة من البارودي ثم تنتظر ماذا سيردّ عليها تللو”.
هناك صفات لأصحاب الطُّرَف كما جاء في المحاضرة “صفات مفيدة جداً تسهّل عليهم صعاب الحياة، وعلى رأسها التسامح وتجاوز المشكلات لأن الابتسامة هي دوماً الأسلوب الأمثل لإنهاء الشجار، أما الصفة الثانية فهي أن غالبيتهم ما تكون شكلها عكس مضمونها، وخير مثال على ذلك الشاعر أحمد الجندي، فهو رجل ثابت بارد لا يخطر في بال أحد أن كلامه الظريف وضحكته الرنانة تنافي شكله العجيب، وأن مبسمه الزاهي يطغى على شكله، ومن الأمثلة الواضحة أيضاً على الصلابة في الشكل إلى حد البغض والنظرات الحادة كان مصطفى سويد أبو درويش الذي كان رجلاً تنظر إليه فترى في محياه أمارات البغض الشديد، وتظنه لئيماً إلى أقصى درجة، لكن براعته الفائقة في رواية النكات والطرف من دون أن يبتسم إطلاقاً كانت تدهش الجميع بقدرته العجيبة على إعادة صياغة الطرف وإلباسها ثوباً جديداً، وقد بلغ من قوة شخصيته وظرافتها أن الأديب حبيب كحالة صاحب مجلة المضحك والمبكي التي كانت تصدر في دمشق منذ ثلاثينيات القرن الماضي قد اتخذ من شخصيته رمزاً لابن الشعب في ذلك الوقت، فكان ينشر صوره الهزلية الملونة على غلاف مجلته بأشكال ومواقف شتى، ويضع تحتها بعض التعليقات الساخرة التي تتناول السياسة المحلية والعربية والدولية”.
وعلى عكس ما أشار إليه تللو سابقاً، كان هناك بعض الأشخاص مجرد النظر إليهم يبعث على الضحك، ومنهم من كان يجعل حياته كلها طرفاً، ومن هؤلاء كما يقول “رجل اسمه أبو سليمان الجيرودي الذي توّج في زمانه بلقب “شيخ النكتة، فإذا وقف ليروي حكاية ضاحكة اشرأبت إليه الأعناق وهفت إليه القلوب وغدا الجميع ينتظرون ما يسمى بالقفلة للقصة التي يرويها فيضحكون من أعماق قلوبهم، مع الإشارة إلى أن الطرفة والضحك أيضاً هي سلاح قوي جداً وفعال في يد من يتقنهذا الفن، وخير مثال على ذلك رجا الشربجي، وهو رجل جمع بين موهبتين: ذاكرة قوية وقدرة فائقة جداً على التقليد والابتكار، فكان يخفف بذلك عن نفسه وعن غيره الكثير من المتاعب والمشكلات، كما تقدم هذه الموهبة لصاحبها الصلابة والشدة إلى أقصى درجة، وخير مثال على ذلك هو أنور البابا الذي قلَّد تقليداً متقناً شخصية المرأة الشامية على مدار أربعين عاماً بدأت في عام 1947 وقسم كبير من الجمهور سواء على المسرح أو على شاشات التلفزيون لا يدري أن هذه الشخصية التي يرونها هي ليست “أم كامل” حقاً التي كانت تمثل النموذج الحقيقي الحي للمرأة الدمشقية في أواسط القرن الماضي التي تتمتع بحلاوة حديثها وطلاوة صوتها والتي سببت له الكثير من المواقف الطريفة”.
ويعتقد تللو بأن الإنسان الظريف صاحب الطرفة الحاضرة وسرعة البديهة حين يهاجمه أعداءٌ له أو أنداد فإنه يتمكن من النيل منهم بسهولة: “لأنهم يرمون أسلحتهم أمام ظرافته وعبقريته، فيصبح الخصم صديقاً، وخير مثال المواقف الطريفة التي كانت تجمع فخري البارودي وحسني تللو ولم يكونا متشابهين بشيء، إذ كان البارودي نحيلاً عصبياً إلى درجة الانفجار، وتللو سميناً مكوراً بارداً هادئاً حتى درجة الصقيع”.
وكان للفنانين الظرفاء حصة من المحاضرة: “كالفنان الكبير عبد الطيف فتحي المعروف بشخصية بدري أبو كلبشة والذي كان علَماً من أعلام الفكاهة في العالم العربي وأشجع من صعد على المسرح، فقد كان قادراً على أن يقلد جميع الأصوات، وحين يتحدث تتحدث معه كل أجزاء وجهه ويديه، وكانت تعابير وجهه وحدها كفيلة بأن تكون حديثاً تاماً يحوي من كل أنواع المساجلة والمسامرة والمعاتبة والوجوم والمرح، مع تأكيدي أن هذه الظرافة الفنية اللافتة كانت تختلف عما يسمى اليوم بـ”عالم الكوميديا”، حيث توزّع أدوار الكوميديا، أما بالأمس فقد كانت الكوميديا روحاً في الممثل ولنا أن نذكر أيضاً الفنان رفيق السبيعي (أبوصياح) ونهاد قلعي (حسني البورظان) وفهد كعيكاتي (أبو فهمي) ودريد لحام (غوار الطوشة) وغيرهم.