ثقافةصحيفة البعث

فوضى المعاني والقِيَم

وجيه حسن   

سؤالٌ إشكالي مُحيِّر: مِنْ أين نبدأ؟!

سؤالٌ مُوَالٍ: كيف يمكن إصلاحُ الخَلَل؟!

الجواب ببساطة: يخيّل إليّ أنّ علّة العلل، أو جوهر المسألة، يخصّان بالفعل “السّاحة الثقافيّة” قبل غيرها لسببٍ أوّلي: أنّها هي التي تؤسّس المعانيَ والقِيم، “وهي التي تخلعُ نوعاً من المشروعيّة والهيبة والسموّ على المجتمع ككلّ”، وعلى الدّوائر والمؤسّسات والسّاحات بعامّة: كالساحة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والرياضية.. فإذا فسدت الأمور في “السّاحة الثقافيّة”، فستفسد بشكل ميكانيكيّ ببقيّة السّاحات والدّوائر والـ…

فالمشكلة المطروحة عُمْقيّاً على مجتمعاتنا العربية، هي، أوّلاً وقبل كلّ شيء: “مشكلة المعاني والقِيم”، أو بشكلٍ أوضح: “فوضَى المَعاني والقِيم”! إنّها الفوضى العارِمة الفَضْفاضَة، التي تتجلّى بهذا السّقوط والانجرار، اللذين لا يكادان يصلان إلى قَعْرٍ حتّى يستقرّا عنده! وربّما وجد بعض الناس بهذه الحركة الانجرافيّة المتسارِعة نوعاً من الإيجابيّة، أو الخلاص، أو التحرّر، أو الانعتاق، أو الانفراج، باعتبار أنّ السّقوط يؤدّي – عادةً – إلى الرّاحة والطمأنينة والهدوء والاستسلام والإذعان أيضاً، وأنّ (فجرَ الأمل، لا يمكن أنْ يبزغ أو يشرق، إلّا بعد يأسٍ مُطبِقٍ كامل)!!

لكنْ مِنَ البديهي، أنّ حركة الزّمن لا تحلّ الأمور بمفردها، بمعزلٍ عنْ تدخّل “الفاعلين الاجتماعيين” المخلصين، أعني “الأناسِيّ والبشر”! فهؤلاء وحدهم القادرون على صُنع تاريخهم، وتوجيه دفّته، وتهديف بوصلته، وحلّ المعضلات والمشكلات بأنفسهم، بعيداً عن تهويمات الآخرين وتوْجيهاتهم وخزعْبلاتهم وألاعيبهم ومؤامراتهم.

بهذا السّياق، من الصّحيح أنّ حركة التاريخ بمرحلة من المراحل، تبدو لنا كالقَدَر المحتوم، الذي لا يمكن رَدّه، أو الإفلات منه، ومن الصّحيح أيضاً، أنّه لا ينفع، أنْ يقف المرء ضدّ التيّار الجارف: تيّار التفكّك والاضمحلال والفوضى والاستهتار والفساد والانْزِياح والانحدار، بشكلٍ فجٍّ صادِم مباشر، بل لا بدّ من معالجة الأمور بعقلانيّة مُنفتحة، وحِنْكَة مدروسة، وصبرٍ أيوبيٍّ، للوصول إلى الغايات المنشودة، والقضاء على هذه الآفات مجتمعة، التي تنخرُ عظام مجتمعنا بلا هوادة، ولا روح وطنيّة!

حِيال هذا، لا بدّ من القيام بردّ فعلٍ مناسب لِرَأب الصّدع، والتدخّل بوعي وصبر وتعقّل وحنكة وحكمة ودبلوماسيّة وقوّة وروح وطنيّة صادقة بمجريات الأمور، في محاولة جادّة للتّغيير والتّطوير والتّثوير، ليستقيم سيرُ السّفينة من دون خلل، أو تهوّر، أو تسرّع، بمعنى أوضح: ينبغي أنْ نعرف كيف نكون مشاهدين لحركة التاريخ، قبل أنْ نصبح – بمراحلَ تالية – فاعلين وممثّلين حقيقيين فيها!

وللأمانة العلميّة والخلقيّة والوطنيّة، فإنّه من المؤكّد، أنّ الخَلَل الحاصل اليوم – بسبب اللامبالاة البلْهاء، والنّرجسيّة الضيّقة، والاستهتار العريض، والطمع المرفوض، والتسيّب الفاضح، – قد أصبح من السُّوء، واتّساع الشّرْخ والفِتْق، بحيث يتطلّب ذلك كلّه التدخّلَ السّريع، ورأب التصدّعات، بلْ ويفرض على الجهات المعنيّة المخلصة إعمال المِبْضَع، وإيجاد الحلول المُجْدِية لإصلاح أيِّ خلل، ذلك أنّ الخَلَل إنّما يخصّ بالدّرجة الأولى “مسألة المعاني والقِيَم” بأعمقِ أعماقها، وأجْلَى صورها، أعنِي: “السّاحة الفكريّة والثقافيّة والأدبيّة”!

حيال هذا كلّه، ليس مُسْتغرَباً، أنْ تمتدّ أصابع الاتّهام نحو “الثقافة”، وجمهور “المثقّفين” بشكلٍ خاص، مُطالِبَةً بإيجاد التّشخيصات الدّقيقة، واجْتِراح الحُلول النّاجِعَة.. وبلغة الصّدق والصّراحة والإبانة، فإنَّ المجتمع العربي، بكلّ ساحاته ومؤسّساته ودوائره وميادينه، يستغيثُ بتكتّم، من الحال المُزْرِيَة التي وصلت إليها الأمور… الناس يريدون أنْ يفهموا طبيعة ما يجري، ولماذا يجري كلّ ما يجري، وبهذه الصّور المرعبة، هنا وهناك وهنالك؟! متى ستتحسّن الأمور؟! متى ستستقيم الأحوال؟! لكنّنا نجد – وبأسفٍ – أنّ شريحة من “المثقّفين”، مشغولة بهمومها الذاتيّة، ومصالحها الضيّقة، ونرجسيّاتها الخائِبة، وزيادة رأسمالها الرّمزي والدّعائي والاقتصادي بوقتٍ معاً، تماماً كبقيّة التجّار أو المقاولين أو السّماسِرة، أو أصحاب رؤوس الأموال والأعمال والتّعهدات، وأرباب المحلّات والفنادق…، إلخ..

إنّ العديد من مجتمعاتنا العربية يئنُّ تحت وطأة صعوبات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بينما هناك عدد من المثقفين يستسلمون لأحاديثهم الخاصّة، واحتفالاتهم بالأمجاد والتّكريم والجوائز وجلسات المقاهي، وإطلالات التّلفزة، والتقاط الصّور التذكاريّة، وهم وراء منصّات الإلقاء!!

هنا، أستميحُ المثقّفين عُذراً، أنا لا أقول هذا منْ باب التّشهير بالثقافة والمثقفين – مَعاذَ الله – هذا التّشهير الذي يمارسه بعض أبناء “السّاحة الاقتصادية”، التي لها مصلحة بتهوِين دَوْر المثقّفين والمفكّرين والكتّاب والأدباء والسّياسيين، من أجل التخلّص من رقابة المشروعيّة التي يسلّطونها فوق رؤوسهم. أقول هذا من وُجْهِة نظر المثقّفين أنفسهم؛ من باب الأمانة والحَيَدة والترفّع، “فلا مصلحة لأحدٍ بالمجتمع في أنْ يفسد دَوْر الثقافة والمثقّفين، أو أنْ يصيبَه الكساد، وفقدان الصّدقيّة”! الحقّ: إنّه مِنْ مصلحة (الجميع) بآنٍ معاً، أنْ ينظّموا الأمور فيما بينهم بشكلٍ دقيقٍ سلسٍ، لتنتظم أحوال المجتمع بعامّة، وتستقيم قواعد اللعبة المُسيِّرة لحركة التاريخ! أو فلنقلْ بصورة أوضح: إنّ سوء الظنّ، وازدياد منسوب التّعالِي من جانب أحد على الآخر،  يؤدّيان بالأعمّ الأغلب، إلى هبوط القِيم، وتشوّش المعاني، واعوجاج السُّبل، وهذا ما لا يريده أحد على وجه البَتّ والقطع، من أجل وطن مُعافَى، نسعى جميعاً، بإخلاصٍ وتفانٍ ونكران ذات، لبناء ما لحق به، وما تهدّم منه، بفعل جنايات الإرهابيين المُتَشنّعِين، القادمين إلينا من بلدان شتّى، من هناك من خلف الشّيطان الأكبر، ومساندته ورضاه ومباركته لهم؛ وبفعل جرائم بعضٍ من أهل “الدِّيرة” والوطن، وتصخّر عقولهم، وتنكّرهم لتراب وطنهم العزيز، وما لَهُ عليهم منْ حقوق مُسْتحقّة، وواجبات هم مُلزَمون بأدائها، لردّ الجميل لأهله وأصحابه، من دون مِنّة ولا أذى ولا “شوفة حال”!!