ليتها تتناثر مع أوراق الخريف
غالية خوجة
ليتها الهموم تتناثر مثل أوراق الخريف عن كاهل الناس، وليتها لا تتكاثر مثل حبّات المطر، هذا ما تمنّته العصافير بعدما قرأتْ ما يجول في أعماقي، وتركتني دون أجنحة، لأمضي قريباً من الشاطئ المؤدي إلى قلبي.. هناك، تبتهل أرواحنا سائلة الله الفرج عن معاناتنا، نحن السوريين خصوصاً، والعرب عموماً، في كل مكان، نحن الذين تكاثفت همومنا وتداخلت مع دمنا، ونزحت بنا الحياة إلى الجهات، بعدما دمّر الإرهاب ما دمّر من بشر وشجر وحجر، لكننا، وكلما تذكّرنا الشهداء الأبطال، وجرحى الوطن الأبطال، عادت إلينا روح التفاؤل بالانتصار على التفاصيل المتبقية من الظلمات، لأن النور هو المنتصر، والحق يهزم الباطل مهما طال الزمان به، وأهل الحق منتصرون.
كم هو جميل أن تعود عائلاتنا إلى شملها. ترى!! هل هذا الوضع الطبيعي للعائلات أصبح حلماً؟!
تدور أفكار كل منا كما تدور الأرض حول مدارها، والفارق الوحيد أنها تدور مع الزمن، بينما نحن يدور بنا الزمن، وليته يتوقف قليلاً كي لا نشعر بأنه علينا مع الكثير من الناس.
ومع هذا الدوران، ما زالت فيروز تغني “يا داره دوري فينا”، وما زال صوت جورج وسوف يصدح “الزمن دوار”، ولا أحد يعرف مصدر هذا الدوران الداخلي الذي ينتابنا، لكن أغنية “طلعت يا ما حلى نورها” بين صباح فخري وفيروز تعيدنا مع سيد درويش إلى لحظة من العودة إلى الجانب المشرق من أنفسنا والعالم والكون.
ولو تأمّلنا “تكتكات الساعة” وهي تدور، للاحظنا أنها جهاز قياس لنبضنا، ترافقنا مع ساعاتنا “البيولوجية”، وتنبّهنا إلى ضرورة الاستفادة من أعمارنا بطريقة موجبة، مؤشراتها الخير، لا العقارب اللاسعة في الساعة العادية، ولذلك، جاءت هذه الحكمة: “الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك”، والمشكلة أن أغلب الناس حملت السيف ونسيت الزمن!
وهذا ما استشرفه الإمام الشافعي، وأتمنى أني أنسبه لقائله بدقة، بقوله “نعيب زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا”، بينما، وفي مرآة أخرى من الأحوال، يقول: “دع الأيام تفعل ما تشاء، وطب نفساً إذا حكم القضاء، ولا تجزع لحادثة الليالي، فما لحوادث الدنيا بقاء”.
نستشفّ أن هناك معادلة بين الصنائع البشرية المشرقة والأزمنة النقية، وبين الصنائع البشرية المظلمة والأزمنة المعتمة، والمعيار ليست العقارب، بل الأفعال، لذلك، دعونا نتساءل: ترى، هل الأيام محض سراب، خصوصاً، وأننا إلى فناء؟
بكل يقين، ما يترسّب من أفعالنا في اللحظات هو الذي يشكّل الذاكرة الحاضرة لغيابنا، وهو مصدر سعادتنا أو حزننا.. لماذا؟
لأنه إمّا أن يكون مؤشراً أو عقرباً للضمير كساعة داخلية لكل منا، وهذه الساعة تمضي مع الأزمنة بلا نهاية، كونها لا ترافقنا في حياتنا فقط، بل تظل معنا في العالم الآخر، وتظلّ “تكّاتها” الروحية حية.
وبإمكان الإنسان أن يختار سعادته الأبدية، لأنها السعادة الحقيقية الخالدة، بينما السعادة الدنيوية زائلة لا محالة، ولا تستحق دمعة واحدة منا، وهذا ما أدركه العارفون، والعلماء، والشعراء، والمبدعون في كافة المجالات، لأنهم لا يتنافسون على الزائل، ولا يتصارعون من أجله، بل يمضون إلى الأفعال الباقية، وهذا يذكّرني بهذه الأبيات: “النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السعادة فيها ترك ما فيها، لا دارٌ للمرء يسكنها إلاّ التي كان قبل الموت بانيها”.
وليتساءل الجشعون، المستغِلون، الظالمون، الفاسدون، الأنانيون، عن ديارهم التي يبنونها هناك، لعلهم لا يجدونها سراباً فيما لو ساعدوا الناس على إزالة همومهم، وجعلوها تتساقط مثل أوراق الخريف، ليحصدها المطر، ويزرعها الزمان صنائعَ بيضاء، وينبت الخير للجميع.