مشهدية سمعية ـ بصرية متكاملة في “الربان والعاصفة”
ملده شويكاني
تألقت الفرقة السيمفونية الوطنية السورية بعزف العمل السيمفوني الضخم للموسيقار صفوان بهلوان “الربان والعاصفة” بأداء مذهل، ولاسيما في مشهد اشتداد العاصفة وتكامل سردية الآلات الموسيقية مع الشاشة السينمائية التي عرضت لوحة تخبط السفينة مع الأمواج المتلاطمة ومحاولاتها النجاة بريشة الموسيقار صفوان بهلوان لكونه فناناً تشكيلياً أيضاً، أبدع بأسلوبه الواقعي الذي يميل نحو التعبيرية، فتمكن من إيضاح صورة عن حركة الأمواج والتأثير على المتلقي بميلان السفينة، وزاد من جماليات اللوحة والعزف المذهل تأثيرات الغرافيك بتطور مشهد العاصفة بهطول الأمطار وغضب الرعد والبرق، فأوحت هذه المشهدية المتكاملة بين السمعي والبصري في الأمسية التي قدمتها الفرقة السيمفونية الوطنية السورية في اختتام أيام الثقافة بشعار “الثقافة رسالة حياة” بقيادة المايسترو ميساك باغبودريان المدير العام لدار الأوبرا في دار الأوبرا، وبحضور المؤلف الموسيقي الموسيقار صفوان بهلوان بتخيّل صوت حنا مينه وهو يكتب رائعته “الشراع والعاصفة” ويصف محاولات البطل الطروسي على إنقاذ المركب بعد غرق مركبه ضمن السياق الدرامي للرواية، هذا المشهد حوّله بصرياً بتقنيات سينمائية عالية المخرج غسان شميط في فيلمه “الشراع والعاصفة” بطولة جهاد سعد، وفي الأمسية أخذت الفرقة السمفونية دور البطل في عزف هذا العمل السيمفوني الذي أعدّه أوركسترالياً الموسيقي السوري العالمي نوري الرحيباني الذي كتب النوتات وأرسلها إلى المايسترو ميساك باغبودريان بخط يده وكان من المقرر أن يحضر عزف العمل لكن القدر لم يمهله.
بدأ العمل الذي تألف من مستويات متعددة تخللها انعطافات وانتقالات حادة بالتمهيد المباشر للعاصفة بحركة متتالية التيمباني وصوت النحاسيات ومن ثم بتكثيف وتري ودخول آلات النفخ الخشبية ودورها وخاصة الباصون مع مرافقة الخط الثاني للوتريات، وصولاً إلى التصاعد اللحني والضربات القوية للتيمباني مع زخم النحاسيات، ومن ثم بدأ التحاور مع الكلارينيت والوتريات بلحن حزين تمهيداً لاشتداد العاصفة والرعد والبرق بالتكامل بين الصورة البصرية والعزف بالانتقال السريع إلى تحويل مشهد العاصفة بالإيقاعيات اللحنية ومن ثم الزخم الموسيقي القوي المتصاعد لكل الفرقة، وبعد السيطرة على العاصفة أخذ اللحن الخافت دوره بفاصل الفلوت ومن ثم دورها مع الإيقاعيات اللحنية والتكثيف الوتري إلى التغيير اللحني بمرافقة الكورال، الذي كان له دور فاعل ودرامي بغناء نشيد البحر “هيلا هيلا” في البداية ومن ثم مع انتصار الربان على العاصفة غنوا نشيد البحر المستوحى من أسطورة الملكة أليسار ملكة قرطاجة “هيلا ليصا” بمستويات صوتية وبالتكرار وبالتناوب بين الذكور والإناث، ثم القفلة الجماعية القوية مع الفرقة والكورال بتفاعل الجمهور الكبير.
وخلال الأمسية التي شغل فيها الربان والعاصفة القسم الأكبر حيّت الفرقة المايسترو صلحي الوادي الذي أسس للمشهد الموسيقي الأكاديمي في سورية وغيّر مصائر حياة بعض الأشخاص الذين يمارسون ويدعمون الحركة الموسيقية الأكاديمية في سورية، فعزفت الفرقة مقطوعة “قطعة ليلية” سلم دو مينور التي بُنيت على موشح:
منيتي عزّ اصطباري
زاد وجدي والهيام
بعد أن أضاف إليه المايسترو صلحي الوادي تنويعات موسيقية وحركات مركبة ليصل إلى صورته النهائية، فبدأ بصولو الكلارينيت ومن ثم النحاسيات بالتوازي مع الآلات الخشبية، وبفاصل الفلوت والباصون والامتدادات الوترية، وتميز بدور التشيللو والترومبيت والباصون لتأتي القفلة بتكثيف صوت التشيللو.
وتقديراً للمؤلفين السوريين الأكاديميين الشباب عزفت الفرقة مقطوعة جديدة من مؤلفات المؤلف وعازف العود كنان أدناوي، ألّفها لآلة الهارب والأوركسترا وفق نمط الكونشيرتو، وتتميز آلة الهارب بألحانها الرقيقة التي ارتبطت بأبعاد دينية وأسطورية بالحضارات القديمة، يقدم العمل للمرة الأولى في سورية ويتألف من حركتين: حركة بطيئة، بدأت بالوتريات ومن ثم دخل لحن الهارب الرقيق ـ العازفة رهف شيخاني- ومضت ألحان الهارب لتأخذ الدور الرئيس مع تكثيف وتري وتأثيرات الإيقاعيات اللحنية، وتميزت الحركة بمساحة للتشيللو مع الوتريات الخافتة، ومن ثم الحركة الحيوية بالتصاعد اللحني بين الفرقة والهارب.