تاريخياً.. الأدب الساخر قهر مستتر بابتسامة
آصف إبراهيم
يصف أحد الشعراء الأدب الساخر باختصار، ويقول إنه “ضحك كالبكاء”، كما يحدد الناقد المصري شوقي ضيف في كتابه “الفكاهة في مصر” مفهوم السخرية فيصفها بأنها أرقى أنواع الفكاهة لما تحتاجه من ذكاء وخفة ومكر، وهي لذلك أداة دقيقة في أيدي الفلاسفة والكتاب الذين يهزؤون بالعقائد والخرافات، ويستخدمها الساسة للنكاية بخصومهم وهي حينئذ تكون لذعاً خالصاً، كذلك هناك ضرب من السخرية لا يعتمد على كلمات ولا على حروف، إنما يعتمد على الألوان والخطوط والظلال والأضواء، وقد شاع في القرنين الأخيرين بأوروبا، ونقلناه عنها، وكان لنا منه حظ في عصورنا القديمة”، ويقصد به شوقي ضيف التصوير الساخر “الكاريكاتير”. ويعدّ الهدف الأول للأدب الساخر، كما يجمع النقاد، هو هدف تصحيحي سواء على المستوى الأخلاقي أم الجمالي، ويختلف في لهجته وتوجهه ومنهجه عن كل أساليب التعبير الأخرى التي تهدف إلى الرفض أو الشجب أو الهجوم أو التقليل من شأن الموضوع المطروح لسهام الكاتب أو المتحدث بأسلوب مباشر وأحياناً فج، لذلك يعتمد الأديب أو الكاتب الساخر على أسلحة التهكم واللماحية والفكاهة والكاريكاتير والكوميديا المستترة وغير المباشرة، وأحياناً الخفية الخبيثة الزاخرة بالغمز والهمز واللمز والتلميح الذي يمكن أن يتطرف إلى حد التجريح.
ولعل الأدب الساخر منذ تبلور منهجه كشكل فني وفكري متعارف عليه، كان يهدف إلى إصلاح المجتمع وتطويره من خلال إثارة الضحكات أو الابتسامات على أقل تقدير، وذلك باستخدام أي أداة متاحة، فالغاية عند الأديب الساخر تبرر الوسيلة، وإن كانت لا تنفصل عنها، مثلما لا يمكن الفصل بين الشكل والمضمون، ومناهج السخرية لا حصر لها، فأحياناً تهدف إلى ترسيخ نظام أو منهج فكرى معين مضاد للمنهج السائد، وأحياناً تسعى إلى تعرية آفة اجتماعية، وأحياناً تهاجم شخصاً بعينه، وغير ذلك من الأهداف التي لا تتوقف السخرية عن التفتيش عنها وكشف حقيقتها للناس بهدف تنويرهم ومساعدتهم على تكوين رأي عام تجاه قضية معينة تهمهم وتؤثر في حياتهم، فالأدب الساخر هو بوح الشعوب المنكوبة، وأكثر الشعوب معاناة أكثرها سخرية في محاولة دائمة من الإنسان لتجاهل واقعه المرير.
وعرف الأدب الساخر منذ أقدم العصور، فضرب جذورا عميقة في الكوميديا اليونانية، وفي سخريات سقراط، وفي ملهاة أرستوفان في المسرحية الكوميدية الشهيرة “الضفادع” في القرن الخامس قبل الميلاد، ولعل من أشهر الروايات الساخرة هي “دون كيشوت” للأسباني سرفانتس الذي يسخر فيها من أفكار الفروسية ويهاجم آثار الروايات المفرطة في الخيال التي تدور حول أعمال الفروسية، واستطاعت السخرية وروح الفكاهة التي تسود هذا العمل بأسره تحطيم الكثير من الأصنام، وعلى قمتها تلك المفاهيم الخيالية التي كانت سائدة في القرن السادس عشر، والحكايات غير الواقعية عن بطولات خيالية لأبطال تفوق قدراتهم قدرات البشر، فقد كانت سخرية سرفانتس في “دون كيشوت” سلاحاً مدمراً للقيم البالية وأداة للتغيير والإصلاح، لذلك ليس غريباً أن أعد هذا الأديب، المؤسس الحقيقي للرواية العالمية.
واشتهرت السخرية في الأدب العربي عند الجاحظ وخصوصاً في كتابه الأشهر “البخلاء” الذي يروي فيه نوادر عن البخلاء، والكثير من النوادر والطرائف التي حصلت له مع الناس ولم يتردد في توظيف شكله الدميم كموضوع للسخرية منها، على سبيل المثال، حكايته مع المرأة وصورة الشيطان وفيها يروي أنه كان جالساً مرة في منزله، فطرق بابه، فخرج ليفتحه فوجد امرأة، قالت له: “أريد منك أن تساعدني في قضاء شأن، فهلّا رافقتني؟”، فوافق الجاحِظ وتبع تلك المرأة حتى بلغت السوق، والجاحظ يتبعها، ثم دخلت دكان صائغ، ودخل هو معها، ولما دخلا قالت المرأة للصائغ: “مثل هذا..”.. ثم انصرفت، وبقي الجاحِظ ينظر إلى الصائغ فاغراً فاه، مذهولاً، ومندهشاً، ومصدوماً.وفهم الصائغ أن الجاحظ لم يفهم، فقال له: “لقد جاءتني هذه المرأة صباحاً، وطلبت مني أن أصنع لها خاتماً عليه صورة شيطان، فأخبرتها أنني لا أعرف صورة للشيطان، وعندها أخبرتني بأنها ستأتيني به، ثم عادت وأنت معها، ويبدو أنها كانت صادقة”.
وهناك من أتى بعده كأبي حيان التوحيدي وابن قتيبة، أيضاً مقامات بديع الزمان الهمذاني الساخرة في القرن الرابع الهجري وأدب ابن المقفع، وأبي العلاء المعري، وغيرهم الكثير.
وفي العصر الحديث، راجت الكتابات الساخرة على نطاق واسع في الأدب العربي وبرزت أسماء سطرت حروفها على رقصات المعاناة وعلى ضحكات الجماهير التي تدير ظهرها لواقعها التعيس، ومن هؤلاء الأدباء – على سبيل المثال لا الحصرـ طه حسين الذي اشتهر بنقده الساخر واللاذع عبر مقالاته وكتبه الكثيرة، وأحمد أمين، ومحمد الماغوط، وجلال عامر الذي رسم “البسمة الباكية” على الوجوه كما يقال عنه، ومحمود السعدني “الولد الشقي” وهو من رواد الكتابة الساخرة في العالم العربي، حسيب كيالي الأديب السوري المجدد الذي قدم السخرية عيناً ينظر من خلالها إلى الواقع، وهي الجانب المرح من الإنسان، الجانب الذي يدرك الوجه الآخر للحياة، الوجه الذي يقول إن الحياة ليست مأساة وحسب، بل ثمة جانب مرح لطيف يستحق الحياة والابتسام، فقد خلص كيالي السرد القصصي من بلاغته القديمة، والمشهد القصصي من دراميته وجديته وعبوسه، ليدخل القصة رحابة الحياة اليومية بناسها البسطاء، لكن الأذكياء على طريقتهم ،والساخرين، لكن بلغتهم ولهجاتهم ومشكلاتهم بعفويتهم وضحكهم النقي ومكرهم اللماح، كذلك الكاتب السوداني جعفر عباس الذي غلب على كتاباته الطابع الساخر، وتتخذ مقالاته الساخرة عناوين متعددة منها “زاوية معكوسة”، و”زاوية حادة”، و”زاوية منفرجة”، و”غامقة”، ومحمد طمليه الذي أسس للكتابة الساخرة منذ عام 1987.
لكن، وعلى الرغم من كل الشهرة والرواج التي نالتها الكتابات الساخرة، تشهد، اليوم، تراجعاً كبيراً على الصعيد العربي لأسباب عديدة، مع أنها مطلوبة الآن أكثر من أي وقت مضى في ظل الواقع المتشظي الذي نعيشه، لكونها تمتلك سلاح الجرأة في مواجهة هذا الواقع، وهذا يتطلب كتابة ساخرة بشروط الأدب الساخر وليس فقط مجرد دعابات عابرة لا تمتلك تأثيراً؛ فمهمة الكتابة الساخرة عربياً، محاربة ظواهر مثل التخلف والتطرف والجهل.