ثائر عودة: إن لم يكن للكاتب الساخر قضية يصبح مهرّجاً
أمينة عباس
يُعرَّف الأدب الساخر بأنه نوع من الأدب الذي يجعل الإنسان يعبّر عما في قلبه من هموم، ويصيغه بطريقة كوميدية، ثم يبرز عمّا في داخله من مشكلات اجتماعية وسياسية، وقد وصف جورج برنارد شو” السخرية بأنها أداة قوية وحادة للتعبير عن الحقيقة، في حين رأها “أوسكار وايلد” شكلاً من أشكال الذكاء البشري وفنّ الأذكياء.
وللحديث أكثر عن الأدب الساخر في عالمنا العربي كان لنا هذا الحوار مع د.ثائر عودة الأستاذ الجامعي والباحث الأكاديمي المتخصص بالأدب والنقد.
كيف تفسر ازدهار الأدب الساخر في فترة من الفترات؟
في مستهل القرن العشرين وبداية ازدهار النهضة الثقافية في الأدب العربي، وخاصة في مصر وبلاد الشام كان المناخ السياسي والاجتماعي والثقافي في حالة مخاض حضاري واسع، ما سمح بظهور أدب مختلف يرصد الواقع العربي الجديد المليء بالمتناقضات والمفارقات، ويحمل رسالة نهضوية تعتمد على الموقف الطريف الساخر، وكان الكاتب الساخر يأخذ اللحظة الحاضرة ليعيد إنتاجها بصورة مغايرة، ويرصد تناقضات الواقع ويقدم مشاهد ساخرة يُجمّل من خلالها ثقل الحياة وأوجاعها، ورافق ظهور هذا النوع من الأدب حراك ثقافي عربي مثقل بالآلام والآمال بتغيير الواقع العربي والخلاص من المستعمر الأجنبي والجهل والمرض والفقر، تلك المشكلات التي كانت تسود المجتمع العربي المليء بالمفارقات والصراعات السياسية والاجتماعية، إذ عانى الوطن العربي ويلات الاستعمار الأجنبي ومحاولات طمس المعالم الحقيقية للشخصية العربية، يضاف إلى ذلك فساد الأجهزة السياسية وعدم قدرتها على حل قضايا الناس والنهوض بمجتمعاتهم نحو واقع جديد مزدهر، فكان لكل هذه الأوضاع المتأزمة وقع خاص في نفس المثقف العربي الذي عاش حياة قاسية، متألماً مهمّشاً، فمزج آلامه بآلام الناس وجعل منها مادة دسمة شكّلت محتوى الأدب الساخر شعراً ونثراً، وبالتالي ظهر كتّاب مبدعون جعلوا السخرية وعاء لتسليط الضوء على العيوب الاجتماعية والسياسية والإنسانية بغية تجاوزها، فانتشر وازدهر هذا النوع من الأدب في المشهد الثقافي العربي منذ منتصف القرن الماضي، وبرز كثير من الأسماء المبدعة التي تخصّصت في هذا الفن وأخلصت له وحده كإبراهيم عبد القادر المازني وجلال عامر من مصر، ومحمد الماغوط من سورية، وإميل حبيبي من فلسطين الذي كان يرى أن السخرية سلاح يهزّ عرش المحتلين.
كيف تفسر تراجع هذا الأدب اليوم؟
ثمة أسباب عامة وأخرى خاصة لهذا التراجع، أما العامة فيعود بعضها إلى تراجع ازدهار الأدب بشكل عام وقلة ظهور أدباء مبدعين في الأجناس الأدبية كلها، وإذا كان ثمة مبدعون فإنهم يعدّون على أصابع اليد الواحدة لأنه بسبب طغيان وسائل التواصل الاجتماعي تراجع الأدب الأصيل لصالح ما يمكن أن نسميه الأدب السريع الذي أصبح مُفضَّلاً لأعداد كبيرة من متابعي تلك الوسائل، يضاف إلى ذلك ما يتعلق بالمتلقي نفسه، وكأن طبيعته قد تغيرت، فلم يعد يستجيب للحياة بضحكة أو ابتسامة كما كان يفعل من قبل، وهذا انعكس على الحياة عموماً وليس على الأدب فقط، ناهيك عن الأدب الساخر، فتغيّرَ سلوك المتلقي وتغيّر ذوقه ولم يعد إضحاكه بالأمر اليسير، كما لا تفوتنا الإشارة إلى تراجع الصحف والمجلات المطبوعة التي كانت المكان الأول لازدهار الكتابات الساخرة، خاصة وأن جزءاً من تلك المطبوعات كان متخصصاً بهذا النوع من الأدب بالتحديد، أما عن الأسباب الخاصة المتعلقة بالأديب فنلاحظ أنه انكفأ وتراجع وشعرَ بعدم جدوى الكتابة عموماً، فانطفأ ذلك التوهّج لدى الأديب المعاصر الذي كان أسلافه من الكتّاب يرون أن كل موضوع يصلح لأن يكون محطة للسخرية، فاتخذوا السخرية أسلوباً، ولا سيما في المجال السياسي والاجتماعي، فكانت السخرية سلاحاً هجومياً يخترق الأعراف والتقاليد والقوانين، وقد أحسن الكاتب استخدامه ظاهراً وباطناً في عبارات والتفاتات ذكية، وبالتالي قلّ عددُ مَن يخوضون ميدان الأدب الساخر.
عند أي تجربة في الأدب الساخر تقف؟
لا يمكن الحديث عن تجربة بعينها في هذا المجال لأنه توفر للأدب الساخر روادٌ كبار في معظم البلاد العربية، ففي سورية يمكن التوقف عند تجربة الأديب محمد الماغوط الذي يُعد من رواد الأدب السياسي الساخر في الوطن العربي، وهو من الذين داوموا على انتقاد الفساد والفقر، وخلّف إرثاً عظيماً لا يمكن أن يُنسى، ومقولاته عن الوطن باتت أيقونات تلامس الجميع وكأنها تقرأ واقعاً نعايشه جميعاً الآن، ليس في سورية فحسب، بل في الوطن العربي كله، كما اشتهر الماغوط بتوظيف السخرية في أدبه بشكل بات جزءاً لا يتجزأ من طبعه، فظهرت في كل ما خطه قلمه من نتاجات شعرية ونثرية، واختار السخرية كشكلٍ للرسالة التي حملها على عاتقه لعلمه بأن السخرية على ما تحمله من مآسٍ هي أسرع في الوصول إلى القلب، وتالياً فإن هذا الأسلوب هو الذي اصطفاه وعُرفَ به فأحسن استخدامه حين اقترنت السخرية باسمه، فاشتهرت جميع أعماله بها، خاصة في مسرحياته التي شملت موضوعات ومواقف مأساوية حاول مزجها بالمواقف الساخرة للتخفيف من حدتها، فكان هذا الأسلوب مستساغاً من قبل القراء والأدباء على حد سواء، وسخريته لم تأتِ لاستثارة الابتسام والضحك والتهريج لدى المتلقي بل هي تقنية استثمرها في إيقاظ عقل القارئ وتحريك مشاعره ودفعه إلى التأمل في مصيره ومصير وطنه.
حازت القصة على القسم الوافر من الكتابة الساخرة، في حين اقتصر هذا الأسلوب على عدد نادر من الروايات والمجموعات الشعرية.
بدأ فن السخرية بالازدهار شعراً، وكان أبرز كتّابه في الأدب العربي من الشعراء، لكن طبيعة هذا الجنس الأدبي ربما لا تتسع لكل ما يتطلبه الأدب الساخر، كما أنه قد يختلط بفن قريب من السخرية أثير لدى الشعراء ألا وهو الهجاء، ولا ريب في أن ثمة فروقاً بين الهجاء والسخرية على الرغم من اشتراكهما في كثير من المادة اللازمة للمحتوى في كليهما كالهجاء الخَلقي والهجاء الخُلقي، بل حتى الهجاء الفاحش، وغير ذلك، فجنح الكتّاب إلى النثر كونه المجال الأرحب للأدب الساخر، ولنا في التراث المنثور المثال على ذلك، وخاصة عند الجاحظ، كذلك في الأدب العالمي لدى “تشيخوف” الروسي و”موليير” الفرنسي وسواهما، وقد اطلع الأديب العربي الساخر على هذا التراث ووجد في النثر وتحديداً في القصة القصيرة ضالته، إذ انطلق من دون قيود الشعر وضوابطه الصارمة ليعبّر عما يريد بلغة سهلة واضحة بسيطة وقصيرة مقتضبة يستخدمها القاص لإبراز ما يريد والتركيز على ما يبغي بشكل مكثف، كذلك لم تفلح الرواية في أن تكون ساحة للأدب الساخر وذلك يعود لطولها النسبي ولأنها تحكي قصصاً معقدة ومفصلة، وتحتوي على غابة من الشخصيات والأحداث والمشاهد، في حين تركز القصة القصيرة على حدث واحد وشخصية واحدة ومفارقة واحدة، وغالباً ما يكون ذلك في حيّز محدد، ثم جاءت القصة القصيرة جداً لتكون أكثر إيجازاً وتركيزاً على لحظة واحدة لا غير، ومع كل ذلك لا بد من الإشارة إلى أن الفيصل في نجاح الأدب الساخر هو الإتقان والإبداع الذي قد يكون في قصيدة ممتعة أو رواية مذهلة أو قصة قصيرة خلابة.
هل يستطيع أي كاتب أن يخوض غمار هذا الأدب؟
بالتأكيد لا يستطيع أن يخوض ميدان الأدب الساخر إلا مبدع من طراز خاص لأن هذا النوع بحاجة إلى مواصفات غير عادية، أكثرها أهميةً أن يكون الكاتب على قدر كبير من الذكاء والحنكة وقوة التخيل والقدرة على اقتناص اللحظة الفارقة وابتداع صور مدهشة نادرة غير مألوفة لا يقدر عليها غيره من الكتّاب، هذا بالإضافة إلى قوة حسّ النقد لديه تجاه الظواهر الاجتماعية والسياسية، فإن لم يكن للكاتب الساخر قضية مهموماً بها، ورسالة يريد إيصالها، فإنه يصبح مهرجاً صاحب مُلحة وطُرفة، أما الكاتب الساخر الفطين فهو الذي يجعل القارئ يبكي من فرط الضحك، وفي الوقت نفسه يضحك من فرط البلية والألم.
ما هي المرحلة الذهبية للأدب الساخر في سورية؟
أولاً لماذا نطلق عليها المرحلة الذهبية للأدب الساخر؟ فأقول لأن المشهد الثقافي في سورية في النصف الثاني من القرن المنصرم شهد ازدهاراً ثقافياً إبداعياً في الأجناس الأدبية كلها، وتربّع الكتّاب السوريون على صدارة الثقافة العربية كلها، فكان من الطبيعي ازدهار الأدب الساخر في سورية ضمن هذا السياق، ويتهيأ له كتّاب مبدعون كبار، وبعيداً عن محاولة التأريخ لحركة الأدب الساخر في سورية يمكن القول إن هذا النوع من الأدب ازدهر لأسباب ثقافية ومجتمعية، وأصبح يشكل مساحة فاعلة وموازية في تأثيرها للأدب الجاد أو ما أُطلق عليه الأدب الملتزم الذي ازدهر هو الآخر في تلك الفترة، لكن طبيعة الكتابات الساخرة خففت من سطوة الإيديولوجيا السائدة فكان قريباً من شرائح اجتماعية لم تكن تحظى عادة بنصيب من الكتابات الجادة.
كيف تصف واقعه اليوم؟
الأدب الساخر مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل الواقع المتشظي الذي نعيشه كونه يملك سلاح الجرأة في مواجهة هذا الواقع ويتطلب شروطاً ذات معايير عالية الجودة وليس مجرد دعابات عابرة لا تمتلك تأثيراً ولا تحمل فلسفة عميقة ونقداً حاداً يحارب الظواهر المعطلة للنهوض العربي، فالتخلف والجهل والمرض وانحسار الحريات والتطرف بكل أشكاله قضايا ما زالت متغوّلة في مجتمعاتنا ولم يُحسم أمرها، وتالياً فإنّ مادة الأدب الساخر ما زالت حاضرة وبقوة، كذلك الهدف من الأدب الساخر الجاد ما زال ضرورة ملحة بل مطلوبة.
ما هي أهم المطبات التي يقع بها اليوم من يخوضون في غماره؟
الضحك من أجل الضحك هو التهريج بعينه، وليس بطبيعة الحال هو الهدف من الأدب الساخر، ولا نبالغ إذ نقول إنه من أصعب الأنواع الأدبية، لذلك فإن الاستسهال في خوض ميدانه على ما يبدو لبعض الكتّاب واعتقادهم بأنه جدار وطيء سهل يوقع في شباك التفاهة والهزل والتهريج لأن هذا النوع من الكتابة ليس له وصفة أو منهج يمكن تدريسه، لكنه خِلقة وفطرة يولد بها المبدع ويطوّرها من خلال امتلاك أدوات الفن والجمال والفلسفة النقدية التي تسهم في تعرية مواطن الخلل التي تطال المجتمع ليصبح تأثيرها أقوى من العقاقير والأدوية.