في ظل فشل التشاركية.. الشركات المساهمة.. الخيار الاقتصادي الأجدى لإصلاح القطاع العام
علي عبود
لايزال إصلاح القطاع العام الاقتصادي معضلة عصية على الحل منذ تسعينات القرن الماضي، وقد شكلت كل الحكومات السابقة لجاناً للتطوير والإصلاح كان مصير مقترحاتها دائما الأدراج المغلقة دون معرفة أسباب عدم تنفيذها!
وإذا كانت الذرائع في السنوات الأخيرة لعدم إصلاح القطاع العام الصناعي، نقص الإعتمادات المالية، فإن هذه الذرائع لم تكن موجودة سابقاً، فقد كانت أرباح مؤسسات وزارة الصناعة في العقود الماضية كافية لتطوير شركاتها لو لم (تصادرها) وزارة المالية تحت مسمى (فوائض القطاع العام)!
إخفاق التشاركية
ورأت الحكومات السابقة منذ عام 2005 أن التشاركية هي الحل الأمثل والوحيد لتأمين التمويل اللازم من رجال الأعمال لتطوير القطاع العام وتحويله إلى قطاع رابح بدلاً من أن يبقى عبئاً على الاقتصاد الوطني والخزينة العامة، وصدر تشريع يتضمن الكثير من المغريات والمحفزات لكل من يرغب بالمشاركة باستثمار الشركات الصناعية العامة وتحديدا الرابحة منها وليست الخاسرة، فماذا كانت الحصيلة؟
أخفقت (التشاركية) حتى الآن بجذب أي جهة من القطاع الخاص السوري بالتقدم لاستثمار أيّ شركة صناعية حكومية بذريعة أن بعض القوانين النافذة تحتاج إلى تعديلات جذرية لخلق بيئة إستثمارية مناسبة، وتحديداً التشريعات المالية والضريبية، بل إن رجال الأعمال وغرف التجارة والصناعة طالبوا حتى بتعديل قانون التشاركية الذي لم يُثمر عن أي نتائج مشجعة، على الرغم من مرور سنوات على صدوره، وعلى الرغم من مطالبات مستمرة من الحكومات السابقة للقطاع الخاص للاستفادة من مزاياه المغرية!!
أما من خيارات أخرى؟
الملفت، بل والغريب جداً، أن ما من حكومة سابقة ناقشت أو تبنّت خيارات أخرى غير التشاركية لتطوير القطاع العام الصناعي، على الرغم من أن لجان الإصلاح السابقة والتي كانت تعقد معظم اجتماعاتها برئاسة رئيس الحكومة اقترحت حزمة متكاملة ومتنوعة من الخيارات لنقل القطاع العام إلى مرحلة تتيح له زيادة النمو الاقتصادي وتحسين واردات الخزينة العامة، ولكن لم تأخذ الحكومات السابقة بأيّ منها، والذريعة الدائمة، إن تنفيذها مكلف جداً، والسؤال هنا: هل فصل إدارة القطاع العام عن المالك الحكومي، وتحريره من قبضات المتنفذين والمنتفعين والفاسدين يحتاج إلى إعتمادات مالية كبيرة؟
البحث عن الموارد
ولو استعرضنا الموازنات العامة للدولة منذ عام 2011، سنتكتشف أن ما يُخصص لتطوير القطاع العام ليس أسوأ من موازنات ما قبل عام 2011، والحديث دائماً عن (عجز في الموازنة) بدلاً من الحديث عن خيارات لإصلاح القطاع العام دون تحميل خزينة الدولة أيّ نفقات كبيرة.
حسناً، من المهم أن تتحدث الحكومة عن “الحرص على اعتماد سياسة مالية توسعية إلى أقصى الحدود الممكنة” في مشروع الموازنة العامة للعام 2025، ولكنها تستدرك فتقول أن هذه السياسة “محكومة بقدرات التمويل المتوفرة بما في ذلك حدود التمويل بالعجز”.
والعجز في الموازنات العامة أمر شائع في معظم، إن لم يكن جميع، دول العالم، ولكن هناك فارق جوهري بين عجز سببه اعتماد الاقتصاد الريعي الذي يترتب عليه غالباً استجرار القروض الداخلية والخارجية، وبين عحز سببه اعتماد الاقتصاد الإنتاجي الذي يحقق الاكتفاء الذاتي في معظم السلع والخدمات، كما كان حال سورية حتى عام 2005 تاريخ تبني نهج السوق الليبرالي المتوحش.
إعادة الاعتبار للقطاع العام
وبما أن الحكومة تستهدف تقديم جرعة إضافية لتحريك عجلة الإنتاج الوطني وبتحريك الطلب الكلي من خلال زيادة الإنفاق العام والخاص، فإن السؤال: ما هي الآليات الفعالة لزيادة موارد الدولة باستثناء الضرائب والرسوم من جهة، وتحفيز القطاعات الإنتاجية لتدير عجلاتها إلى الحدود القصوى لتصنيع سلع منافسة في السوقين الداخلي والخارجي؟
من المؤسف أن ما من حكومة منذ عام 2005 اهتمت بالآليات التي تزيد القدرات المالية للدولة سوى الضرائب والرسوم، أو بخلق فرص العمل المدرّة للدخل للشريحة الأكبر في المجتمع بدلا من اعتمادها على الوظيفة العامة بأجر هزيل.
ولا نبالغ إذا قلنا انه يُمكن تحفيز الاقتصاد الوطني من خلال إعادة الحياة والاعتبار للقطاع العام ليكون رافداً للخزينة العامة لا عبئاً على الدولة ومستنزفاً لاعتمادات الموازنة العامة.
من خاسرة إلى رابحة
والملفت إن آليات تنشيط القطاع العام وتحويل شركاته الخاسرة إلى رابحة، والرابحة إلى أكثر ربحاً متوفرة كما أشرنا منذ تسعينات القرن الماضي ضمن مقترحات لجان الإصلاح التي طويت في الأدراج دون أي مناقشة جدية لإمكانيات تنفيذها.
ونشير في هذا السياق إلى أن وزير صناعة سابق قدم مذكرة للحكومة منذ ثلاثة عقود اقترح فيها منح شركات ومؤسسات القطاع العام الصناعي العام الاستقلال المالي والإداري، أي تحريرها من 35 جهة وصائية على الأقل في مقدمتها وزارة المالية، ومحاسبة إداراتها على النتائج النهائية، فتم (تطييره) مع أول تعديل وزاري.
آليات قديمة جداً
أليس ملفتا أن تصرّ الحكومات المتعاقبة أن يبقى القطاع العام يعمل وفق آليات قديمة جداً تعود لسبعينات وثمانينات القرن الماضي من جهة، ومنع تطويره وتحديثه وفق مقترحات لجان إصلاحه العديدة من جهة ثانية، ومع ذلك التهمة الجاهزة والمكررة دوما: القطاع العام فاشل وخاسر، وعصيّ على التطوير والإصلاح.
لقد أخفقت الحكومات المتعاقبة منذ عقدين من الزمن بتطبيق نهج التشاركية لأن القطاع الخاص إما أنه لا يؤمن إلا بالشركات العائلية، أو أن كبار رجال المال والأعمال غير مستعدين لمشاركة أحد، حتى لو تعلق الأمر بالاستثمار في شركات الحكومة الرابحة بعقود لمدة نصف قرن قابلة للتجديد.
الخيار الاقتصادي الأمثل
حسناً، بما أن التشاركية لم تنجح، ومنح شركات القطاع العام الصناعي الاستقلال المالي والإداري غير وارد في الحسابات الحكومية أو لم يعد مجدياً، فلماذا لم تلجأ أيّ حكومة إلى خيار تحويل الشركات العامة إلى شركات مساهمة يكون الجزء الأكبر من الاكتتاب على أسهمها بالقطع الأجنبي؟
ويمكن أن تكون البداية بالشركات الرابحة، وهو خيار اقتصادي بامتياز يتيح للشركات الجديدة إدارتها بعقلية القطاع الخاص من جهة، وتأمين الموارد المالية لنفض خطوطها الإنتاجية بأخرى حديثة لتصنيع منتجات معدة للتصدير من جهة أخرى، والأهم أن هذه الشركات ستتيح لأصحاب المدخرات استثمارها في الأسهم بدلاً من تخزينها في المنازل، أو إيداعها في المصارف لتفقد قوتها الشرائية عاما بعد عام، أو تجميدها في عقارات لا تفيد الاقتصاد الوطني.