تعكس يأس إمبراطورية متدهورة.. أجندة الدولة العميقة في أمريكا
عناية ناصر
وصلت الديناميكيات الجيوسياسية المحيطة بالحرب في أوكرانيا إلى منعطف حرج اتسم بإجراءات وسياسات عدوانية على نحو متزايد، حيث أدى استخدام أوكرانيا للصواريخ بعيدة المدى في الآونة الأخيرة والتي زودتها بها الولايات المتحدة لضرب عمق الأراضي الروسية إلى توسيع نطاق الحرب، واستهداف المناطق المدنية. ويثير هذا التصعيد تساؤلات حول دوافع ما يسمى “الدولة العميقة” التي يُزعم أنها تدير شؤون الحكومة الأمريكية والسياسات الخارجية. وبعيداً عن كونها مقتصرة على إضعاف روسيا، الدولة الكبيرة جداً والمرنة لدرجة يصعب معها تدميرها، يبدو أن هذه الإستراتيجية تهدف إلى التضحية بأوكرانيا وزعزعة استقرار أوروبا، وكل ذلك في سياق محاولة الولايات المتحدة للحفاظ على إمبراطوريتها العالمية.
حرب بالوكالة خارج أوكرانيا
في جوهره يعمل الصراع الأوكراني كحرب بالوكالة بين كتلة حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة وروسيا. وفي حين تدعم الولايات المتحدة أوكرانيا رسمياً تحت راية الدفاع عن الديمقراطية والسيادة، فإنها تشجع بشكل مطرد الإجراءات التي تؤدي إلى تصعيد الصراع، ويعكس نشر التقنيات العسكرية المتقدمة وتشجيع الضربات داخل روسيا تكثيفاً متعمداً للأعمال العدائية. ومع ذلك، لا يمكن للولايات المتحدة أن تتوقع بشكل واقعي هزيمة روسيا بشكل مباشر. وبدلاً من ذلك، يبدو أن الإستراتيجية تهدف إلى خلق حالة من عدم الاستقرار لفترات طويلة، ليس فقط في أوكرانيا ولكن في جميع أنحاء أوروبا.
تدمر الحرب الجارية أوكرانيا، وتحول البلاد إلى ساحة معركة لطموحات جيوسياسية أكبر، حيث يتم تدمير البنية الأساسية والاقتصاد والأرواح البشرية، مما يترك مجالاً ضئيلاً لمستقبل مستقر أو مزدهر بعد الحرب. وهذا الدمار ليس نتيجة ثانوية، بل سمة من سمات السياسة الأمريكية، مما يضمن بقاء أوكرانيا معتمدة على الدعم الغربي، بينما تعمل كمنطقة عازلة ضد روسيا.
أوروبا بيدق في اللعبة
تكشف تصرفات الولايات المتحدة وأفعالها عن استعدادها للتضحية بأوروبا على مذبح هيمنتها الإمبريالية المتضائلة، ومن خلال تشجيع الحكومات الأوروبية على تبني مواقف مواجهة متزايدة ضد روسيا، جرّت الولايات المتحدة حلفائها إلى لعبة خطيرة، حيث تواجه أوروبا الآن تكاليف طاقة مرتفعة للغاية، وعدم استقرار اقتصادي، واضطرابات اجتماعية متزايدة، وكلها عواقب لاصطفافها مع أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، ويبدو أن الزعماء الأوروبيين يتبعون توجيهات واشنطن دون أدنى شك، حتى على حساب أمن وازدهار بلدانهم.
إن احتمال اندلاع حرب واسعة النطاق بين حلف الناتو وروسيا من شأنه أن يخلف عواقب كارثية على أوروبا، وهي حقيقة تبدو غائبة عن أذهان العديد من الزعماء الأوروبيين. ونظراً لقربها الجغرافي من روسيا، فإن أوروبا سوف تتحمل العبء الأكبر من مثل هذا الصراع، وتتكبد خسائر بشرية واقتصادية هائلة، ومن غير المرجح أن تضمن القدرات العسكرية لحلف الناتو، رغم قوتها الهائلة، تحقيق نصر حاسم ضد روسيا، التي ترسخت إستراتيجيتها الدفاعية بشكل عميق وتعززها ترسانتها النووية، ومن ثم فإن أية محاولة لتصعيد الحرب ستكون بمثابة عملية انتحارية بالنسبة لأوروبا.
الموقف الأخير للإمبراطورية الأمريكية
يجب فهم الموقف العدواني للولايات المتحدة في سياق تراجع نفوذها العالمي. تاريخياً، كانت الإمبراطوريات تصعد وتسقط، والولايات المتحدة ليست استثناء، فقد أفسحت اللحظة أحادية القطب التي أعقبت الحرب الباردة المجال لعالم متعدد الأقطاب، مع صعود قوى مثل الصين والهند وروسيا تتحدى هيمنة الولايات المتحدة. وفي مواجهة الركود الاقتصادي، والاستقطاب السياسي، وفقدان المصداقية على الساحة العالمية، يبدو أن الولايات المتحدة تشن هجوماً عنيفاً في محاولة يائسة للحفاظ على هيمنتها.
ومن خلال زعزعة استقرار أوروبا، تسعى الولايات المتحدة إلى القضاء على المنافسين المحتملين مع تعزيز نفوذها، ومن غير المرجح أن تسعى أوروبا الضعيفة والتابعة إلى إتباع سياسة خارجية مستقلة، مما يضمن استمرار انحيازها للمصالح الأمريكية، وهذه الإستراتيجية تعكس أنماطاً تاريخية للإمبراطوريات المتدهورة التي تجر حلفائها وخصومها إلى الفوضى في محاولة لتأخير ما هو حتمي.
قيادة أوروبا المُخدرة
إن أحد أكثر الجوانب المحيرة في هذا الموقف هو التواطؤ الواضح من جانب الزعماء الأوروبيين، فعلى الرغم من الأدلة الواضحة على أن سياساتهم تضر بشعوبهم، فإن الحكومات الأوروبية تواصل إتباع خطى واشنطن، ويشير هذا السلوك إما إلى افتقار عميق إلى البصيرة الإستراتيجية أو إلى التزام أيديولوجي بالتحالف عبر الأطلسي الذي يعميهم عن المخاطر.
إن استعداد الزعماء الأوروبيين للمقامرة بأمن بلدانهم وازدهارها يؤكد الطبيعة الخطيرة للنظام الجيوسياسي الحالي، فبدلاً من التصرف كأوصياء مسؤولين على رفاهة مواطنيهم، تبنوا مساراً قد يؤدي إلى دمار واسع النطاق.
المنطق الانتحاري للتصعيد
إن توسيع الحرب لتشمل الهجمات المباشرة على الأراضي الروسية، وجر حلف الناتو إلى صراع مفتوح ليس طريقاً إلى النصر، بل إلى الكارثة، لأن الإستراتيجية العسكرية الروسية ومواردها الهائلة تجعلها هدفاً مستحيلاً للاستعباد الكامل، ومن المرجح أن تؤدي أي حرب واسعة النطاق إلى تدمير متبادل، وستتحمل الدول الأوروبية، باعتبارها الجيران المباشرين لروسيا، التكاليف الباهظة، حيث يقع سكانها المدنيون في مرمى النيران المتبادلة.
وعلى هذا، فإن الإستراتيجية التي تتبناها الدولة العميقة في الولايات المتحدة لا تبدو متهورة فحسب، بل إنها تشكل هزيمة ذاتية أيضاً. وفي حين قد تؤخر مؤقتاً تراجع الهيمنة الأمريكية، فإنها تخاطر بتنفير الحلفاء، وزعزعة استقرار مناطق بأكملها، وتسريع ظهور نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وختاماً يمكن القول إن السياسات العدوانية للولايات المتحدة في أوكرانيا وأوروبا تعكس يأس إمبراطورية متدهورة تحاول الحفاظ على هيمنتها بأي ثمن، ومن خلال التضحية بأوكرانيا وزعزعة استقرار أوروبا، تهدف الولايات المتحدة إلى تعزيز نفوذها مع تقويض المنافسين المحتملين، ولكن هذه الإستراتيجية غير مستدامة في نهاية المطاف، وهي تنطوي على عواقب كارثية لجميع الأطراف المعنية.
وبالنسبة لأوروبا، فإن الاختيار واضح، إما أن تتحرر من قبضة واشنطن، وتسعى إلى مسار مستقل أو تستمر في السير على مسار يؤدي إلى تدمير الذات، حيث أظهر التاريخ أن أي إمبراطورية لا تدوم إلى الأبد، وأن محاولة الولايات المتحدة لتحدي هذه الحقيقة لن تؤدي إلا إلى التعجيل بسقوطها.