أردوغان والحسابات الخاطئة
د. خلف المفتاح
ما جرى خلال الأيام الماضية من تطور للأحداث في سورية، وتصعيد خطير يدخل المنطقة في دوامة صراع واسع لا تعرف مآلاته وتداعياته، يطرح عديد الأسئلة حول أسبابه وتوقيته وأهدافه.
لا شكً أن ما جرى مرتبط بشكل أساسي بما شهدته الساحتان الفلسطينية واللبنانية من أحداث، وتوقف إطلاق النار في الجبهة اللبنانية، واعتقاد أردوغان عن ثمة تغير قد حدث في موازين القوى في المنطقة، ولاسيما على مستوى محور المقاومة يمكن استغلاله من قبل التنظيمات الإرهابية المسلحة، ما يمكنها من توسيع مساحات سيطرتها في مناطق حلب وادلب وغيرها، ليكون ذلك وسيلة ضغط على سورية، حيث لم تتم الاستجابة لدعواته المتكررة لفتح حوار مع دمشق وصولاً للتطبيع معها، علماً أن دمشق لم ترفض ذلك، وإنما طلبت تعهداً بالانسحاب التركي من الأراضي التي تسيطر عليها في سورية كبادرة حسن نية للانخراط الجدي في الحوار، إضافة إلى أن الرئيس التركي أراد من وراء خطوته في تحريك التنظيمات الإرهابية هو إعطاء رسالة للأمريكيين أنه قادر على إزعاج روسيا التي تحرز قواتها تقدماً في أوكرانيا حليفة الأميركيين والغرب، من خلال استفزاز حليفتها سورية وإشغال قواتها المتواجدة في سورية، سيما وأن ثمة أيادي أوكرانية تساعد التنظيمات الإرهابية الموجودة في ادلب ومحيطها، إضافة إلى أن أردوغان يريد إرسال أوراق اعتماد لترامب الرئيس الأميركي القادم بأن تركيا قادرة أن تكون أداة في تحجيم الدور الإيراني في سورية، وأنه يمكن لأميركا الاعتماد عليها في رسم ملامح شرق أوسط جديد: شرق أوسط بدون أعداء لـ “إسرائيل”، بل حلفاء لها، وشرق أوسط يشكل مجالاً اقتصادياً، وليس شرق أوسط سياسي وسيادي وعروبي.
إن ما يجري هو جزء من مشروع للمنطقة وشرق أوسط جديد بأدوات مختلفة وأدوار مختلفة تحدث عنه قبل فترة ليست بالطويلة رئيس وزراء الكيان الصهيوني مبيناً أنه بدون أعداء لـ “إسرائيل” وسيقوم على سلام مقابل السلام تفرضه قوة “إسرائيل” وتفوقها، وتمهيد الطريق لما أسماه ترامب في ولايته الأولى “سلام اقتصادي عبر صفقة القرن والاتحاد الإبراهيمي” الذي لا يعود كونه “إسرائيل” كبرى بعنوان وديباجة جديدة .
إن ما جرى من استدارة تركية وانقلاب على اتفاقات أستانة، وتجاوز لكل الخطوط الحمر، يشي بشكل واضح أن ثمة تكامل أدوار بين التركي والإسرائيلي والأميركي، وأن أردوغان الذي يجيد اللعب على خرائط الصراعات الدولية، والاشتغال وفق حاسة الشم اعتقد خاطئاً أن ثمة تغير في موازين القوى يصب في صالح أميركا وحلفائها، وأن الترامبية السياسية قادمة عبر معطى “الإدارة بالجنون والترهيب” في ظل حديث عن إعادة تعريف لمفهوم الهيمنة الأميركية من هيمنة عبر فائض القوة العسكرية إلى هيمنة عبر فائض القوة الاقتصادية، وأن أميركا لن تخوض حروباً تدفع كلفتها، وإنما على طريقة شركات التأمين: المال مقابل الحماية وبلاك ووتر، وهنا يمكن لتركيا لعب دور في ذلك وفق رؤية خاطئة لأردوغان الذي يبدو أنه لم يتخلى عن أوهامه العثمانية والاخوانية في إعادة إنتاج مفهوم السلطنة، وهذا عصاب سياسي يبدو أنه لم يغادره.
إن ما جرى من عدوان قادته التنظيمات الإرهابية يدخل المنطقة في دوامة عنف وإرهاب لن يسلم منه أحد، بما في ذلك تركيا التي تعاني من مشاكل اقتصادية وصراعات سياسية، وما أسمته تهديد لأمنها القومي ما كان ليحصل كل ذلك لولا السياسات الخاطئة التي ارتكبتها الحكومة التركية منذ انطلاق ما سمي “الربيع العربي” الذي ركب أردوغان وحزبه حصانه اعتقاداً منه أنها الفرصة التي لا تفوت لإعادة إحياء مجد عثمانية جديدة بلبوس ليبرالي يعجب الغرب، ويستجيب لرغباته وهواجسه، وهو المتخوف من موجات الإسلام السياسي وتداعياته على الغرب وأمنه واستقراره .
إن محاولات أردوغان تبييض صورة التنظيمات الإرهابية وتسويقها لن تجدي نفعاً، بدليل ما صدر عن أغلب دول العالم من إدانة لما جرى، ولاسيما الدول العربية وتحديداً مصر ودول الخليج العربي والعراق لاستشعارها خطورة ذلك وتداعياته على أمنها القومي، وخطر عودة الروح للتنظيمات الإرهابية المسلحة، واستعادة ما فقدته من مكاسب حققتها بحكم ما توفر لها من دعم واحتضان من أردوغان وحكومته، وما شكله ذلك من تهديد للأمن القومي العربي والاستقرار في المنطقة، والعديد من دول العالم بما فيها أوروبا ذاتها.
من هنا وأمام تلك الحقائق والمخاطر، تبدو مسؤولية دول المنطقة وكل من يدّعي الحرب على الإرهاب الوقوف إلى جانب سورية ودعمها بشكل حقيقي لهزيمة ذلك المشروع الخطير، الذي يدرك الجميع تداعياته على أمن المنطقة واستقرارها .