ثقافةصحيفة البعث

لغة الضّاد وما أجملَها..

وجيه حسن

في بدء البدء، لا تظنّوا بينكم وبين أنفسكم أنّ صرختي هذه، هي الصّرخة الأولى التي أُطلِقها وحدي الآن، وتسمعونها أنتم بملءِ عقولكم، وأنباضِ قلوبكم، ونوافذِ آذانكم، لكنّ الفضاء العربيّ الممتّد، من أقصاه لأقصاه لأدناه، ومن مائه لمائه، ومن خليجه لمحيطه، قد امتلأ بمثل هذه الصّرخات الضّافيات العاليات، التي دهمَتِ الآذان والنّفوس والأفئدة، وحفرت فيها عميقاً، لكنّها ـ بكلّ أسفٍ بالغٍ، وقهرٍ دفينٍ ، لم تستطع حتى الآن إيقاظ الغافلين المُغفّلين، ولم تتمكّن حتّى اللّحظة من تغيير الأمر بالصّورة المطلوبة، والشّكل الأمثل، ولكنْ وعلى رأي المثل: “أنْ تُوقِدَ شمعةً خَيْرٌ مِنْ أَنْ …”!!

الصّرخة الكبرى، هي الشّكوى المُتأسِّية من “ضَعْفنا” المُخجِل في لغتنا العربيّة الأمّ، لغة تراثنا الماجِد المُؤثّل، لغة آبائنا وأجدادنا وعلمائنا وكتّابنا وأدبائنا ودارسينا والمحقّقين أيضاً، لغة سيبويه، وابن مالك، والجاحظ، وعبدالله بن المقفّع، والمتنبّي، وابن خلدون، والمعرّي، والشاعر التونسي أبي القاسم الشابّي، والشاعر اليمانيّ عبد الله البَرَدُّوني، وعميد الأدب العربي د. طه حسين، ولغة الأدباء: حافظ إبراهيم، عبّاس محمود العقّاد، أحمد شوقي، ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، سليمان العيسى، زكريا تامر، والرّوائي الجزائري واسيني الأعرج، والشاعر والناقد السوري شوقي بغدادي، وكثيرين غيرهم…

وفي حبّ العربيّة، وعلى لسانها، يقول شاعر النّيل “حافظ إبراهيم”، ((1932 – 1872: “وَسِعْتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وَغايةً وَما ضِقْتُ عَنْ آيٍ بِهِ وَعِظَاتِ… أنا البَحرُ في أحْشَائِهِ الدّرُّ كامِنٌ  فَهلْ سَألُوا الغَوّاصَ عَنْ صَدَفاتِي”؟

عَودٌ على بدء: إنّ الشّكوى قديمة، ولا تزال العربة “عربة اللّغة” في انزلاقٍ وانحدارٍ مُؤسِفَين، ثمّ ما زالت أصابع الاتّهام تُوجَّه مرّةً إلى هاتِه الجهة الرّسمية أو تلك، إلى المعلّم حيناً، إلى الطالب حيناً آخر، إلى الأهلين، والمناهج، وطرق التّدريس، والكتب المدرسيّة، والشّارع العربيّ، ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمكتوبة في أحايين كثيرة..

التّهمة خَطِرة.. المتّهمون كُثُرٌ.. فماذا نحنُ فاعلون؟!

وبهذا المضمون أسوق للقارئ المُثابر/ وللقارئة المُهتمّة، ما أورده د. محمد صافي المستغانمي، رئيس التّحرير، في افتتاحيّة “مجلّة مجمع اللّغة العربيّة بالشارقة”، العدد الثاني، تشرين الأول 2022، وهو يقول: “جيل التّواصل الاجتماعي.. تُرى كيفَ يكتبُون؟ وهلْ يستطيعون التّعبيرَ عمّا يجول في خواطرهم، وهلْ يُبينون؟ وهلْ يعنُون ما يقولون؟ وماذا يقرأون؟ وبأيّ لغةٍ يتراسلون ويتخاطبون؟ والمنشور الّذي يتهافت عليه أبناؤُنا اليوم في موائد التّواصل الاجتماعي، في الغالب الأغلب، لا يُسمِنُ من جوعٍ، ولا يُغنِي من مَسْغَبَة، ولا يروي غليلاً، ولا يشفي عليلاً، وهذا كلّه ينعكس على فنّ الكتابة وأسلوب التّعبير والأجناس الأدبيّة المتنوّعة لدى أبنائنا وبناتنا، ولدى كتّابِنا وشعرائِنا وأهلِ الفنون في عصرنا.. علينا أن نقرأ العربيّة من أوعيتها العتيقة، وأسفارِها الخِصْبة المُحمّلة بالتّعبير الشّائِق، واللّفظ الرّائِق”..

الحقَّ أقول:

إنّني سأكون ساذجاً مُغفّلاً إذا ما ظننتُ حالماً واهماً، أنّ مقالي هذا، أو أنّ كلماتي البسيطة هذه، أو أنّ مئاتٍ من المقالات والكتابات والمحاضرات والحوارات والنّدوات والافتتاحيّات والدّراسات واللّقاءات، سوف تبدّل هذا الواقع اللّغويّ البارد الثّقيل، أو تُزحزح صخرته الجاثمة فوق ألسنتنا وعقولنا، وفوق صدورنا.. فسلطة الواقع اللّغويّ المشار إليه – وبمنتهى الصّدق والصّراحة – أقوى من حناجرنا، وأصلب عوداً من أقلامنا وتطلّعاتنا ومواجعنا وآمالنا وصرخاتنا..

لكنّ الأمر الأهمّ، الذي يدعو إلى التّفاؤل، ونشدان الأمل ـ ونحن بهذا الصّدد ـ أنّه لا يزال في الأمّة العربيّة العريقة أناسٌ يغارون على “لغة الضّاد”، لغة التّراث الماجِد، لغة حضارتنا الأثِيلَةِ، وأنّ هناك عروقاً في جسد هذه الأمّة وكيانها وأوردتها وشرايينها، لا تزال تنبض، تحيا، تقرأ، تكتب، تنطق، تحاور،تتدفّق، وتبدع..

إنّ لغتنا العربيّة بكلّ فخر واعتزاز، تزهو على غيرها من لغات العالَم، بما تمتاز به من ثراءٍ وجَمالٍ ورصانةٍ وإشراق، وما تحويه من خصائصَ وميزاتٍ أبقَتْها لغةً حيّةً لأكثرَ من خمسةَ عشرَ قرناً من الزّمان، لتصبح أكثرَ اللغات السّامية تحدّثاً ونُطقاً، وإحدى أكثر لغات العالم انتشاراً، فهي ولا ريب أصلُ اللّغات…

وعلى سبيل التّمثيل، ها هو الشّاعر السوري الرّاحل “سليمان العيسى”، يقول على لسان “العربيّة” بلغة المديح والثّناء:

أنا ما بَرِحتُ تألّقاً وَسَنَا

لغةُ العُروبةِ والبقاءِ أنا

في بُرْدِيَ التّاريخُ أنْسُجُهُ

شِعراً ونَثْراً أبْهَرَ الزَّمَنَا

وممّا لا ريب فيه، فإنّ أحداً من سكّان هذه المعمورة المترامية، لا يستطيع أنْ ينكر أنّ لغة أيّ أمّة، إنّما هي وعاء ثقافتها، وعنوان شخصيّتها، ودليل عافيتها، وأنّ إهمالها، عن سابق إصرارٍ وترصُّد، إنّما هو قتْلٌ لِقيم هذه الأمّة، واندثار لتاريخها، وطمس لوجهها التّليد، وانحطام أكيد لرفعتها، وتنكّر ظالم لأولئك الذين حفظوها لنا برونقها وبهائها وقوّتها على مرّ الأيام، وكرّ السنين، إذْ حملوها إلينا بأمانة العلماء، وحصافة الرّجال الأوفياء..

وفي قصيدته التي عنوانها: “اللّغة العربيّة”، ينشد الشّاعر الإماراتي المرْحوم “حمد بن خليفة أبوشهاب”، (-1933- 2002) في حبّ اللّغة الأمّ قائلاً:

“لغة القرآنِ يا شمسَ الهُدى

صانَكِ الرَّحمنُ مِنْ كَيْدِ العِدَى

هلْ على وَجْهِ الثّرَى مِنْ لُغةٍ

أحدثَتْ في مَسْمَعِ الدّهرِ صَدى

تَبعثُ الأمْسَ كَرِيماً وَالغَدا

كلّما قادَكِ شَيطانُ الهَوى

للرّدَى نَجّاكِ سُلطانُ الهُدى”..

ثم يزيد بعضهم جرعة استهزائِه بلغتنا العربيّة الأمّ، وتحامله عليها قائلاً عنها بلسان أعور معوجّ، وبكلماتٍ مُنْبتّةٍ ليست في محلّها الصّحيح على وجه القطع والتّوكيد:

  • (إنّ اللّغة العربيّة بحروفها الثّمانية والعشرين، لا تصلح بَتّاً لتدريس اختصاصات الطبّ والهندسة والرياضيّات والصّيدلة والعلوم الأخرى، ولا حتّى لتدريس مادّة التّربية الرياضيّة ـ البدنيّة ـ بحجّة واهية مخذولة، هي أنّ قوانين هذه “التّربية” إنّما جاءتنا من هناك، من وراء البحار والمحيطات).

وإذا كانت أمم الأرض قاطبةً، وبكلّ الأصقاع، تحترم لغاتِها، وتحرص عليها قراءة وكتابة، وتتعصّب لها، فما أجدرنا – نحن العرب– بذلك، لأنّ لغتنا لغة ربّ السّماء والأرض جلّت قدرته، ولأنّها الوجهُ الحقيقيُّ الوضِيءُ لديننا الإسلاميّ الحنيف، ولأنّها لغة قرآننا وأدبنا، وتاريخنا، وتراثنا، وماضينا التّليد، وحاضرنا المَعِيش، ومستقبلنا المفتوح على الأمْداء والأجْواء..

وإلى القارئ النّبيه، أسوق جملة من الأسئلة المشروعة الّتي تطرح نفسها بهذا الخضمّ، وبهذا السّياق، منها على سبيل التّمثيل لا الحصر:

  • كيف نستطيع، فعلاً لا ادّعَاءً، معالجة هذا الخِصَام النَّكِد بين إنساننا العربيّ، وبين لغته العربيّة؟ بين إنساننا وبين الكتب؟ بين حياتنا الاستهلاكيّة الجوفاء، وبين زادِ المعارف، وثروةِ العلوم؟ بين أهوائِنا البهلوانيّة، وعقولنا المتعطّشة للمعرفة والعلم والتّحصيل؟
  • ثمّ كيف نستطيع أنْ نغرس في عقول أبنائنا وبناتِنا حبّ الكتب وعشقها وحيازتها؟ ومتعة القراءة والمطالعة؟ وماذا يجنون من وراء حضور الأمسيات، والنّدوات، والحوارات، واللّقاءات الأدبيّة والفكريّة والفنيّة والموسيقيّة والعلميّة من فوائدَ شتّى غنيّة مثمرة؟

وعلينا طُرّاً أنْ نطالبَهم من دون تَعَالٍ أو أسْتذَةٍ أو أدْنَى تَراخٍ بمحاولة الابتعاد ما أمكن عن الحياة المجانيّة الاستهلاكيّة المقيتة، وعدم تضييع أوقاتهم بلا طائل في أمور حياتية تافِهة غُثَاء، كما علينا أنْ نجذّر في عقول أبنائنا وبناتنا – حبّات القلوب، فلذات الأكباد – وفي نفوسهم، الجملة المعروفة المأثورة، دائمة الحضور والتألّق: “ليسَ بالخبزِ وَحْدَهُ.. يحيا الإنسان”!

وهاكُم ما قالته الشّاعرة العراقيّة “صباح الحكيم” المُقيمَة في فرنسا، وهي تحدّثنا عن حبّها الضّافي العميق للّغة العربيّة الرّفيعة قائلة:

“أنا لا أكتبُ إلّا لغةً

في فُؤادِي سَكنَتْ مُنذُ الصِّغَر

لغة الضّادِ وما أجملَها

سأُغنِّيها إلى أنْ أنْدَثِر

سوفَ أسْرِي في رُبَاها عاشِقاً

أنْحَتُ الصَّخرَ وَحَرْفِي يَزْدَهِر”..

وأختم بما قاله الشّاعر اللبناني المعروف “حليم دموس”، في حبّه اللّغة العربيّة، بل في عشقه لحروفها وتعابيرها ومعانيها:

“لوْ لمْ تكُنْ أمّ اللّغاتِ هيَ المُنَى لَكَسرْتُ أقلامِي وعِفْتُ مِدادِي”

“لغةٌ إذا وقعَتْ على أسْمَاعِنا كانَتْ لنا بَرْداً على الأكبادِ”..