الحزب الشيوعي يعقد مؤتمره “الحاسم” من الماركسية اللينينية إلى نيو ماوية… شي جينغ بينغ يقود ثورة الصين الثالثة
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
من المرجح أن يحدث خلال مؤتمر الحزب الشيوعي “الحاسم” في الصين الذي تحدد في 16 تشرين الأول الحالي، وهو العشرون منذ تأسيس الحزب عام 1921، تغيير واسع على تركيبة اللجنة الدائمة للمكتب السياسي المؤلفة من سبعة أعضاء، وعلى جزء من الأعضاء الحاليين في الحزب الذين بلغوا سن التقاعد وسيغادرون، وفقاً لعرف شفوي.
إن إطلاق صفة “الحاسم” على المؤتمر لها أسبابها الداخلية، لأن النجاحات التي حققتها الصين، والحزب الشيوعي في شتى المجالات تعود في الأساس الى “كاريزما” القائد، وعليه إن ما يميز المؤتمر القادم أنه سيعقد في فترة دقيقة وغالبية الحزب وكل المجموعات العرقية في البلاد ينخرطون في توجه جديد من أجل بناء دولة اشتراكية حديثة، بالإضافة إلى مشاركة أكثر من ألفي عضو لاختيار أعضاء المؤتمر الذي يعقد مرة كل خمس سنوات في مسعى لضخ دماء جديدة في اللجنة المركزية للحزب، حيث يتوقع أن يجري ترقية بعض أعضاء اللجنة المركزية إلى المكتب السياسي المؤلف من 25 عضواً، فيما يُحتمل دخول وجوه جديدة إلى اللجنة الدائمة للمكتب السياسي في الحزب الشيوعي.
يذكر أنه خلال المؤتمر السابق في عام 2017، أدخل الرئيس شي جين بينغ فكره في أدبيات الحزب الأساسية، وبعد ذلك بأشهر، تم إدخال تعديل على الدستور لحذف شرط الولايتين الرئاسيتين كمدة قصوى، بمعنى أنه يمكن التجديد للرئيس الصيني في منصب السكرتير العام للحزب لولاية ثالثة.
الرئيس القائد
منذ ماو تسي تونغ، تسجل للرئيس شي جين بينغ البالغ من العمر 69 عاماً والذي قاد الصين منذ عام 2012، نجاحات البلاد الداخلية والخارجية على حد سواء، ولهذا سيحظى هذا المؤتمر، الذي يُعد منعطفاً تاريخياً لثاني أكبر اقتصاد في العالم، بمراقبة دقيقة لرصد أي تغيير في الموقف السياسي من قبل الرئيس الصيني.
لقد نجح شي جين بينغ في تعزيز موقع بلاده من خلال إصلاح شامل للجيش خلال السنوات الخمس الأولى له في السلطة، وحملته لمكافحة الفساد التي استمرت قرابة 10 سنوات. ورغم التحديات الكثيرة التي تواجه الصين سواء داخلياً مع الأداء الاقتصادي، أو خارجياً مع تصاعد التوتر مع الولايات المتحدة، إلا أن تحديد موعد المؤتمر يظهر استقرار شي جين بينغ داخل الحزب. وفي ذلك، رأت لينغ لي، خبيرة في القوانين والسياسة الصينية في جامعة فيينا، أن الإعلان عن موعد عقد المؤتمر يعد بمثابة اتفاق على قضية اختيار السكرتير العام للحزب. وفي مقابلة مع DW، قالت: “عندما يتم الإعلان عن موعد عقد المؤتمر، يمكننا القول بأن صانعي القرار الرئيسيين قد توصلوا إلى توافق في الآراء بشأن هذا الخيار”.
منذ أن تسلم شي جين بينغ منصب الأمين العام للجنة المركزية في الحزب الشيوعي الصيني في عام 2012، اعترف بأن الحزب والبلاد يواجهان تحديات أسماها بـ “وجهات النظر الخاطئة”، لكنه أصر على أن الصين تعتمد “الحكمة الصينية” ومقاربة خاصة لحل المشاكل التي تواجه بلاده، وهو أمر لم يحدث منذ حكم ماو تسي تونغ، فمنذ وفاته لم يكن هناك زعيم صيني اقترح بشكل مباشر محاكاة النموذج الذي تتبعه الصين.
في الأربعينيات من القرن الماضي، قاد ماو الثورة الشيوعية التي أوجدت الدولة الحزبية الصينية المعاصرة، وابتداءً من أواخر السبعينيات، أشرف خليفته دنغ شياو بينغ على “الثورة الثانية” التي فرضت نفسها بنفسها، والتي أدخل فيها الإصلاحات الاقتصادية والسياسة الخارجية التي أنتجت معجزة الصين الاقتصادية. الآن، أطلق شي ثورة ثالثة، حيث لم يبطئ فقط عملية “الإصلاح والعكس” التي بدأها دينغ، بل عمل بعكسها أيضاً في بعض الأحيان، وسعى إلى تعزيز مبادئ الصين الجديدة.
بدأ شي ثورته بمجرد توليه السلطة، حتى بات إسمه وأيديولوجيته – المتمثلة في “فكرة شي جين بينغ عن الاشتراكية ذات الخصائص الصينية لعصر جديد”- في دستور الحزب، وهو شرف لم يكن قد تم منحه في السابق إلا لـ ماو.
لقد ارتبط النمو الكبير للصين بتكثيف دراماتيكي لقوة الحزب الشيوعي في المجتمع والاقتصاد، حيث عاد البندول نحو دور أكبر للحزب بعد الفترة الماوية (نسبة إلى ماو تسي تونغ)، والفترة الدنغية (نسبة إلى دنغ شياو بينغ).
دفع شي بالصين بعيداً عن التزامها التقليدي بسياسة خارجية ضعيفة مما عجّل في التحول الذي بدأه سلفه هو جين تاو، حتى باتت الصين، في ظل عهد شي، تسعى إلى تشكيل المعايير والمؤسسات الدولية، وتؤكد وجودها بقوة على الساحة العالمية.
في جوهر ثورة شي، هناك تحدٍّ قائم على القيم في وجه المعايير الدولية التي تروّج لها الولايات المتحدة، لذلك إن مواكبة المبادرات العديدة لِـ شي ليس بالأمر السهل، ومن المغري الاستجابة لكل مبادرة بمجرد حدوثها، وبالتالي فإن ثورة الصين الثالثة سيكون لها سلطة البقاء، لأن التاريخ بالتأكيد إلى جانب شي، وهناك أدلة كثيرة على أن ثورة شي ماضية إلى الأمام، لأن العديد من إنجازاته أكسبته دعماً شعبياً واسع النطاق.
حزب يدير الدفة
بلغ الحزب الشيوعي الصيني عمر المئة وعام، حيث شهدت مدينة شنغهاي عملية تأسيسه في 1921، حين، ومن بين آخرين، حضر المؤتمر الأول للحزب ماو تسي تونغ وكان آنذاك يبلغ من العمر 27 عاماً. ومنذ ذلك الوقت، يسير أعضاء الحزب البالغ عددهم 90 مليوناً قدماً بقوة في “التقليد الأحمر”، متمسكين بالماركسية اللينينية، وفكر ماو تسي تونغ، ونظرية دنغ هسياو بينغ، والنظرة العلمية للتطور، وأفكار شي جين بينغ حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الحديث.
الشيوعية الصينية وجدلية بكين
مع تحديد موعد المؤتمر “الحاسم”، من الضرورة التأكيد على أن الشيوعية الصينية أدت إلى تنوع كبير في وجهات النظر وأساليب القيادة، حيث يتجلى التنوع التاريخي للصين الشيوعية بشكل أكثر وضوحاً من الشخصيات التي أدت أدواراً مهمة في تطور الحزب الشيوعي الصيني، والصين تالياً كثاني أكبر اقتصاد في العالم. منذ ماو تسي تونغ وخلفائه، دينغ هسياو بينغ، وجيانغ زيمين، وهو جينتاو، يمثل الرئيس شي جين بينغ تحولاً كبيراً بالمقارنة مع القادة الآخرين الذين حكموا بعد ماو. لقد أعاد شي تجسيد الصين كدولة تكنوقراطية، ونيو ماوية، وهو ما يفتح المجال لفهم أفضل لفكرة التعددية والتنوع في الحزب الشيوعي الصيني، لكن تقاليد التنوع هذه تبقى مشفرة في الحمض النووي السياسي للصين، كأنها جينات متنحية، بمعنى أنها تحمل صفات كامنة جاهزة للتعبير عن نفسها في أي وقت.
إذن، كيف يجب أن يفهم الغرباء هذا البلد الذي لا يكف عن التحول، ويفاجئ المحللين باستمرار في فطنته التنموية غير العادية؟. ثمة “برنامج تشغيل” خاص يتضمن التركيز الوطني على السرية، والرغبة في تنظيم كل شيء، وإعادة تعليم، وتصحيح لا نهاية لها.
واستطراداً، يملك الاندفاع الداخلي المتجذر لدى الحزب الشيوعي الصيني تعبيراً موازياً عن نفسه في تفاعلات الصين مع العالم الخارجي، في حين أن ما يسمى بالقوة الناعمة يشكل شيئاً تنظر إليه معظم الدول بوصفه نتيجة ثانوية مستقلة وطبيعية لأنشطتها الثقافية والاجتماعية، لكن الحزب الشيوعي الصيني ينظر إليها على أنها شيء يحتاج إلى إدارة حذرة.
يعتقد الفيلسوف الألماني هيغل أن التاريخ له حركة تقدمية، وهي الفكرة التي استعارها كارل ماركس، فخلص إلى أن التاريخ سيوصلنا حتماً إلى الاشتراكية العالمية، كما أطلق مارتن لوثر كينغ الابن علناً كلماته الشهيرة: “قوس الكون الأخلاقي طويل، لكنه يميل صوب العدالة”، وكذلك أخبر الرئيس الأميركي رونالد ريغان البرلمان البريطاني أن الماركسية اللينينية متجهة إلى “مزبلة التاريخ”، وأشار الرئيس بيل كلينتون في مرات عدة إلى الصين على أنها “تقف في الجانب الخطأ من التاريخ”، وكذلك توقع الرئيس باراك أوباما النصر في الحرب على الإرهاب “لأننا في الجانب الصحيح من التاريخ”.
هل أخطأ هؤلاء الأميركيون المثاليون في تحديد اتجاه التاريخ؟. هل للتاريخ اتجاه أيّاً كان، مع غرق الولايات المتحدة في الاحتجاجات العرقية وعمليات إطلاق النار الجماعية، ومع اقتحام اليمينيين الشعبويين مبنى الكابيتول الأميركي، ورفض المحافظين الأميركيين التطعيمات ضد فيروس كورونا باسم الحرية؟. هل يمكن أن ينتهي التاريخ بتفضيل تكنوقراطية شي جينغ بينغ الماوية الديناميكية؟.
لقد أدت الشيوعية الصينية إلى تنوع مذهل في وجهات النظر، وأساليب القيادة لذلك لا يمكن لأحد التنبؤ بنوايا التاريخ، وكل ما يمكن الركون إليه هو أن التاريخ ينحو إلى التغيير بدلاً من الثبات، وهذا بالضبط ما يجعل بكين غير قابلة للتنبؤ.
إن الضوابط الاجتماعية في الصين اليوم، والبنية التحتية المثيرة للإعجاب، والاقتصاد الديناميكي، والجيش ذا الطابع العصري، يضفي مظهر أمة منظمة جيداً، وواثقة لا تقهر، متحدة حول زعيم غير قابل للتحدي وحزب موحد، ولا ينبغي صرف النظر عن نجاحاتها. ووفق ما حذر شي منه أخيراً، “إن كل أعمال وسائل الإعلام التابعة للحزب يجب أن تعكس إرادة الحزب، وتحمي سلطة الحزب، وتحافظ على وحدة الحزب. يجب أن تحب الحزب، وتحميه، وتتماشى بشكل وثيق مع قيادة الحزب في الفكر والسياسة والعمل”.
ليس ثمة شك في أن الحزب الشيوعي الصيني يستخدم أدوات في خلق دعم شعبي، تشمل حدوث ازدهار متزايد واعتزاز وطني، وحتى الاستجابة للرأي العام ضمن درجات متفاوتة. بصورة إجمالية، تترك تلك الأدوات أو الرؤى لدى باقي شعوب العالم احتراماً للتقدم المادي الصيني، وتجربتها العملاقة في مجال العلوم الاجتماعية، بعد أن نجح الحزب الشيوعي الصيني في إتقان نموذج تطور جديد لا يتطلب قيماً جذّابة كتلك التي تطلقها الولايات المتحدة.
السر الاقتصادي
في خمسينيات القرن الماضي، أطلق ماو تسي دونغ مشروع “القفزة الكبرى إلى الأمام”، واستتبع ذلك بالثورة الثقافية الكبرى التي أطلقها ماو نفسه في الستينيات. بعد وفاة ماو في عام 1976، قاد الزعيم دنغ شياوبينغ الاصلاحات لتغيير وجه الاقتصاد الصيني، فقد منح المزارعون الحق في استغلال أراضيهم الخاصة مما ساعد في تحسين مستويات معيشتهم والتقليل من ظاهرة شح المواد الغذائية. يقول ديفيد مان، كبير الاقتصاديين الدوليين في بنك ستاندارد تشارترد: “منذ نهاية السبعينيات إلى الآن، رأينا أكبر المعجزات الاقتصادية في التاريخ”.
في التسعينيات، بلغت نسبة نمو الاقتصاد الصيني مستويات قياسية، وانضمت البلاد إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 مما منح اقتصادها دفعة إضافية، فقد انحفضت التعريفات الجمركية المفروضة على المنتجات الصينية في شتى الدول، مما أدى إلى انتشار هذه السلع في كل مكان.
لقد أدت الاصلاحات الاقتصادية التي أطلقها دنغ إلى تحسين مستوى المعيشة بالنسبة للملايين من الصينيين. وفي الوقت ذاته، تسارعت مستويات التعليم بشكل كبير، حيث توقع بنك “ستاندارد تشارترد” أن تكون 27 في المئة من القوة العاملة في الصين تحظى بتعليم جامعي بحلول عام 2030، وهو معدل يساوي وضع ألمانيا الآن.
في الحقيقة، تخضع سياسة التجارة الدولية في بكين لحوافز مدروسة بعناية، على عكس الحكمة الشائعة بين اقتصادات السوق التي تتمثل في أن التجارة العالمية تعمل بشكل أفضل عندما تُترك بلا قيود، ولعل خير مثال على ذلك هي المعجزة الاقتصادية الصينية التي بدأت منذ الحقبة الماوية وتسارعت بقوة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
في عام 1949، كانت البلاد فقيرة، وكان لدى السكان أدنى مستوى من المعيشة، وكان متوسط العمر المتوقع 36 عاماً، و85 ٪ من الصينيين لا يستطيعون القراءة أو الكتابة، لكن في عام 2022، بات الاقتصاد الصيني يمثل 18٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في تعادل القوة الشرائية، كما باتت الصين هي القوة المصدرة الرائدة في العالم، وهي الشريك التجاري الرائد لـ 130 دولة، وقد ساهمت في 30٪ من النمو العالمي على مدى السنوات العشر الماضية. ومع 400 مليون شخص، تعد الطبقات الوسطى الصينية الأكبر في العالم، وقد أدى هذا التطور الاقتصادي إلى تحسين الظروف المعيشية المادية للصينيين بشكل كبير.
ويلحظ هنا أن السياسات التجارية للصين استعادت إستراتيجية اقتصادية اتبعتها ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، ففي عام 1941، وصف الخبير الاقتصادي ألبرت هيرشمان برلين بأنها ليست تاجراً حراً ولا مؤيداً للحماية، بل “تاجر قوّة”، بمعنى الربط بين التجارة وميزان القوى، وفي هذا الشأن كتب الخبير الاقتصادي روبرت أتكينسون، أن ألمانيا هتلر استخدمت التجارة العالمية أداة رئيسة في اكتساب تفوق تجاري وعسكري على خصومها، محولةً التجارة الخارجية إلى أداة للقوة والضغط، بهدف إحداث توازن أو تفوق على اقتصادات خصومها. يجادل أتكينسون بأن الصين أصبحت اليوم “تاجر قوة”، ساعية إلى جعل نفسها سوقاً مهمة في تصدير المواد الخام. ووفق ما أعلن شي جينغ بينغ نفسه: “مسؤوليتنا هي التوحيد… والعمل من أجل تحقيق التجديد العظيم للأمة الصينية كي يتاح لها الوقوف بمزيد من القوة والحزم بين جميع الدول في جميع أنحاء العالم”.
اليوم تعكف الصين على تأسيس جبهة جديدة في مجال التنمية الاقتصادية العالمية، فالفصل الجديد في تخطيطها لتنمية الدول الأخرى ينبزغ من خلال موجة تمويل لمشروع بنى تحتية لمبادرة “الحزام والطريق”. تهدف هذه المبادرة، التي يطلق عليها أيضا اسم “طريق الحرير”، إلى ربط نصف سكان الأرض تقريباً ببعضهم البعض، ودمج خمس الناتج الوطني الاجمالي العالمي من خلال تأسيس ارتباطات تجارية واستثمارية تمتد إلى كل زوايا الكرة الأرضية.