ماذا وراء ستارة المعرض المشترك “3+1” في صالة الخانجي؟
حلب – غالية خوجة
إذا ما رأيت وجوهاً ترسمها التشكيلات الهندسية، وتتناغم ملامحها مع ألوانها بسلام ومحبة، وتنثر عليك من ذاكرتها حكايات لا تُحصى من ريف حلب ومدينة حلب، فاعلم أنك أمام لوحات التشكيلي الكاتب الموسيقي فاتح المدرّسk وهو يزخرف معانيه اللونية بأعماقه المنتسجة مع أعماق الناس وتحولات البيئة والطبيعة والحياة في كلّ مكان وزمان.
الصمت يرسم الصوت
لحزنه على كوكب الأرض والعالم، يقول المدرّس بما معناه في أحد حواراته: الإنسان بلا طبيعة محاصر من قبل المجهول، لقد حرمنا من الطبيعة على كوكب الأرض الرائع، أين ساعة المشي في البراري مع حرية الضوء واللون والصوت؟
ولذلك، ركّز على حضور الطبيعة بأنواعها البرية والإنسانية ومخيلتها الهامسة للأعماق لتتحوّل إلى أصوات لونية تناغمية ديالوغية ومونولوغية تتكلم رسماً وترسم الكلام، وما زالت تردّد مع ذاكرته: “كان شارع بارون عام 1947 وكأنه الشانزليزيه، وفيه تعرض لوحاتي، وكنت سوريالياً صغيراً في فترة سوريالية الشاعر أورخان ميسر، وكنا نحبّ بعضنا البعض ونحترم المحافظة على شخصياتنا، وهذا ما رسخه بأعماقي أستاذي الفنان فرانكو غنتليني الذي شجعني على متابعة حلمي الشرقي وأنا أتابع دراستي الأكاديمية في روما وأعمل في الوقت ذاته، وهو من علمني الحب مع المحافظة على شخصيتي”.
أمومة شقائق النعمان وحواس الأزرق
ومن تشكلات المحبة رسم المدرّس فلسفته المضاءة بألوانه وعفويتها وخطوطها المتراشقة التي تعزف حكاياتها مع ظلال حكايات أبطاله في مجموعته القصصية “عود النعنع” وقصائده المكتوبة بالعربية، والفرنسية، ضمن مجموعتين مشتركتين مع كل من شريف خازندار وحسين راجي، نازحاً مع اللون الأحمر وتدرجاته إلى نبضات أمه وهي تصير شقائق النعمان المتداخلة مع صور ذاكرته ولا وعيه لتتفتّح في فضاء أعماله الإبداعية الأشبه بأصوات الريح المختلفة العابرة بين الشجر، فينسج من أنغامها موسيقا ملاحمهِ بين ريشة ولون وعمل، لترسو في عمق اللوحة أسئلة مختلفة تحذف إجاباتها وتكتبها بأسئلة جديدة تشبه انكسار أشعة الشمس على الماء في يوم شتوي ماطر، فيبدو الأخضر حذراً كالأصفر، بينما تبدو حواس الأزرق متأرجحة مثل الزفير الصاعد من ثقوب الناي وهو يموج بأفكار جلال الدين الرومي، وشمس الدين التبريزي، والحلاج، والسهروردي، فلا يصادف الغفوة، بل يظل عابراً باحترام شفيف بين البراري والقش والقصب.
تحية لروح الفنان فاتح المدرّس
احتفلت حلب بالذكرى المئوية لفنانها التشكيلي العالمي فاتح المدرس التي صادفت الأيام التشكيلية السورية في دورتها الخامسة بين ورشة وندوة ومعارض في صالة تشرين، بينما أقامت صالة الخانجي معرضاً مشتركاً بعنوان “تحية لروح الفنان فاتح المدرّس.. (3+1)”، مؤلفاً من 34 لوحة لكلّ من الفنانين محسن خانجي، إبراهيم داود، جبران هدايا، سعد قصبجي.
جورنيكا خانجي
يتقن الفنان محسن خانجي رمزية الألوان ودلالاتها وتأويلاتها، ولذلك يبصم باللازوردي وتدرجاته، والبني وإضاءاته، على مختلف الألوان لتتشكل حالات تساؤلية ولاسيما في لوحته “جورنيكا” – والاسم مستعار من لوحة بيكاسو – بحجمها الكبير، وملحمتها التي ترويها عن سورية وانتصاراتها رغم الحروب التي حدثت على مرّ الأزمنة، فتبدو الوجوه والأعماق والمباني في حالة من التحدي والانتصار الذي تخطّه سورية على الكرة الأرضية الملونة بالأزرق، وتفصله عن الجحيم الغامق، لترشقه بعينيّ الوجه الطفولي المؤنث المحدق كما عيني العُقاب السوري في آخر نقطة من الضوء واللوحة والعالم والكون.
وعن مشاركته، أجابنا خانجي: منذ عام 1900 حتى عام 2000 والفنان السوري ينطلق من وطنه وينتشر في العالم، مثل عمر حمدي، ومروان قصاب باشي، لؤي كيالي، وفاتح المدرس الذي مرّت تجربته بعدة مراحل، مع إصراره على التعبيرية المحلية التي تميّزه، فترك بصمته على حداثتها، لذلك، أتساءل: لماذا لم تُعرض أعمال المدرس التي كانت في مديرية الفنون الجميلة أثناء هذه الاحتفالية؟
صرخة فيروز العربية
يسرد الفنان إبراهيم داود رواية الواقع بحبكة لونية ضمن سلسلة خماسية بانورامية تحكي شخصياتها المؤنثة عن الصرخة الفيروزية أثناء الحروب، لترتسم استغاثة المعاني في لوحتين معبّرتين، إضافة إلى صوت الصمت المنعكس من السبابة الموضوعة على الفم في لوحة ثالثة، بينما تخبرنا اللوحة الرابعة بأن “كورونا” تشبه القنبلة، وتختتم الخامسة بالطمأنينة وحمامة السلام.
ورأى داود أن معادلة المدرّس الفنية تميّزه لأنها جمعت بين التبسيط والتجريد والتعبيرية، وأضاف متسائلاً: لماذا لم يتحوّل مرسمه في دمشق إلى متحف خاص به؟ ولماذا لا يزور المعارض طلاب كلية الفنون ومعهد الفنون ومركز فتحي محمد للفنون؟ ولماذا حلب تختلف عن دمشق من حيث الاهتمام بالأعمال الفنية والثقافية؟
البحث عن الضوء
وعكست ثلاثية الفنان جبران هدايا حالة من البحث عن الضوء والحلم في عالم يحيط ببطلاته في لوحاته الثلاث الجانحة إلى الرومانسية مع ألوانها الشتوية المتربّصة بالرمادي والأسود والأبيض، معتمدة في إظهار انعكاسها المطمئن على ملامح الوجوه وهدوء المكان.
وعن شخصية المدرّس، قال هدايا: إنها أهم من أعماله لأنها اتسمت بالعفوية والصدق، حتى عندما أخبرني ذات لحظة: إن الفنان كذاب!
الواقعية المفرطة
وبدوره، عبّر الطبيب سعد قصبجي عن سعادته بمشاركته الأولى في معرض تشكيلي، مضيفاً: عملت تمثالاً من معجون “البيلون” في طفولتي، ورسمت لوحة زيتية وعمري 15 سنة، وشاركت بمعارض مدرسية، وانقطعت 37 سنة عن الرسم لأسرق الوقت وأعود إلى الألوان.
وعن أعماله المتسمة بتفاصيل التفاصيل، أجاب: أحب الدقة وأركّز عليها، ربما لأنها طريقتي في عملي بمجال الطب وأحب الرسم بواقعية مفرطة.
ألوان المقامات
ورأى الفنان محمد صفوت الزائر للمعرض أن الرسم والموسيقا يلتقيان، فكلّ مقام موسيقي له لون، مثلاً، “الرصد” للسعادة ولونه البنفسجي، و”الصبا” للحزن ولونه الأصفر الأوكر، الأصفر البني القريب من ألوان الأرض الطينية الطبيعية.