قدّور: أستغرب اتّهام البعض للغة العربية بالبداوة؟!!
نجوى صليبه
منذ البداية يصرّح الدّكتور أحمد قدور ـ عضو مجمع اللغة العربية وأستاذ فقه اللغة العربية بقسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة حلب والمتخصص بالدّراسات اللغوية ـ بأنّ المحاضرة إسقاط شفاف ليس فيه شيء من الجرأة كما أنّه ليس ليّ أعناق المصطلحات وما إلى ذلك، مضيفاً: هي مراجعة علمية لا أكثر ولا أقلّ، ويجب أن توضع في سياقها، والمنهج العربي هو منهج اجتماعي وسيلته الوصف، وليس منهجاً معيارياً كتب فيه فلان وتحدّث فلانٌ آخر، وما إلى هنالك.. أنا أعدت فحص المنهج وتبيّن لي أنّه منهج اجتماعي..
وفي محاضرته التي قدم ـ من حلب ـ إلى دمشق من أجل تقديمها في مجمع اللغة تحت عنوان: “المعطيات الاجتماعية وأثرها في اللغة ومنهجها”، يبيّن قدّور: المعطيات الاجتماعية مصطلح جديد وهو ترجمة لمصطلح فرنسي، ويعني الوقائع والمبادئ التي تتّخذ نقطة بدايةً للعلوم، وهو مصطلح موفّق تماماً، وهذه المعطيات هي ما يمكن أن يستخرج من مسائل اجتماعية تتعلّق بحياة الإنسان، مفترضين أنّ اللغة هي بنت المجتمع، ولا يمكن أن توجد من دونه، فالإنسان الفرد إذ عاش منفرداً ولم يتحدّث مع أحد لا يستطيع تكلّمها أو نطقها، لذلك الافتراض الأساس هو أنّ الّلغة بنت المجتمع، ويُبنى على ذلك أنّ المجتمع له خصائصه التي تنعكس على اللغة وهذا درس مستمدّ من علم اللغة الاجتماعي، وهو فرعٌ من الّلسانيات التّطبيقية الّتي تدرس فيها اللغة مع علم آخر مثلَ اللسانيات الحاسوبية والتّرجمة والتّنمية، والدّراسة تنطلق من المعطيات الاجتماعية وبيان أثرها في اللغة أي دراسة اللغة في الإطار الاجتماعي، وهناك علم الاجتماع اللغوي ومشتقّ من علم الاجتماع بدوحته الكبيرة وهو يتناول المسائل نفسها التي يتناولها علم اللغة الاجتماعي، لكن بمعنى آخر يدرس اللغة وتأثيرها بالمجتمع، بينما علم اللغة يدرس تأثير العناصر الاجتماعية في اللغة وكثير من الدّارسين يسوّي بينهما، لكن هناك اختلافات منهجية، مضيفاً: علم اللغة الاجتماعي هو علم حديث نشأ في 1952 تقريباً، واتّسع لاحقاً واتّخذ الدّرس مناحي متعددة منها الإحصائي والاستقصائي، وهذه لمحة موجزة عن الجو العامّ للإطار العلمي الذي نريد أن نفحص فيه مسائل اللغة العربية.
ويقسّم قدّور محاضرته إلى قسمين، الأوّل يتعلّق بالمسائل الاجتماعية التي تؤثر في تكوّن اللغة وخصائصها وتطوّرها، وأمّا الثّاني فيخصصه لدراسة أثر المجتمع في تشكيل المنهج اللغوي وفي سوق الّلغويين إلى جهات معيّنة، يوضّح قدّور: لدينا عناوين كثيرة، ومثالنا اللغة العربية الفصحى، ميدان اهتمامنا وعنوان حياتنا، ومن المعطيات الاجتماعية الّتي تؤثّر في اللغة أولّاً الحالة الحضارية وهي هنا حالة البداوة، حيث نجد أنّ اللغة العربية نشأت في مجتمع بدوي صحراوي، وانعكست هذه الحالة في اللغة العربية التي نشأت بدويةً، لكن من الخطأ أن نقول إنّها لغة بدوية لأنّها تركت تلك النّشأة وتطوّرت كثيراً إلى أن أصبحت لغة العلوم والطّبّ والأدب والشّعر، لذلك أستغرب كثيراً أنّه في أدبيات عصر النّهضة نقرأ لبعض الأدباء المصريين الذين كانوا يتّهمون اللغة العربية بالبداوة، من هذا الباب أُحصي في دراسات حديثة نحو خمسة آلاف كلمة أو وصف للجمل وما يتعلقّ به، ونحو خمسمائة اسم للأسد وأكثر من أربعمائة اسم للعسل وأربعمائة اسم للأفعى، وهذا دليلٌ على أنّ المفردات الشّائعة استمدّت لفظها من البداوة، لكن لا بدّ من التّأكيد على أنّنا لا نشتم ها هنا بدواً لهم جمالياتهم وخصائصهم وظروفهم وآدابهم.
ويتابع قدّور: الحالة الثّقافية أيضاً تؤثّر في نشوء اللغة وتطوّرها وانحصرت عند العرب بالشّعر، لأنّه لم يكن لديهم أسطورة أو مسرح كالتي عرفت عند الفرس ولأنّ الشّعر هو عماد ثقافتهم وسجل حياة العربية، ونلاحظ أنّ الحالة الثّقافية أثّرت في اللغة، لذلك كان الشّعر العربي كما هو معروف مصدر من مصادر اللغة العربية، أيضاً الحالة الاقتصادية هي نشاط السّكان والمجتمع، ونضيف على ذلك الطّبقات الاجتماعية، فالمجتمع ليس على خطّ مستقيم بل طبقات وفئات عمرية واجتماعية تتعلّق بالمال والرّفاهية والنّسب والدّم وهم كانوا يعيشون في مجتمع السّادة.. إذاً اللغة هي سجل ومرآة الحياة الاجتماعية، وهذه الحالة هي الحالة العربية، لكن لو نظرنا إلى حالات أخرى كاليونان نجد نقيض ذلك، نجد الحالة الحضارية استقراراً واهتماماً بالموسيقى والغناء الفردي والجماعي.
ويشير قدّور إلى أنّ شوقي ضيف بالغ في قضية أنّ العرب في الجاهلية كانوا متحضّرين وعاشوا حياةً رغيدةً، وأنّه يعاكس الرّأي الشّائع بأنّ العرب بدو متنقّلين وأنّ الاستقرار كان محصوراً بعدد من القرى الصّغيرة، منوّهاً بأنّ: أثر المعطيات الاجتماعية في توجيه المنهج الّلغوي هو الأساس الذي جُمعت بناءً عليه اللغة، وهذا جانب مهمّ جدّاً، وتبيّن لي أنّ الآراء السّابقة لم تكن دقيقة وأنّ المنهج كان معيارياً عندما صار النّحو تعليمياً ويواجه البلبلة الأعجمية، لكن هذا الوصف لا ينطبق على اللغة في منتصف القرن الثّاني والثّالث، وما كُتب وما نُقل من نصّ للفارابي في كتابه “الألفاظ” من أنّ العرب قد جمعوا من القبائل ولم يأخذوا من أيّ حضري واتّخذ هذا على أنّه منهاج عمل، ليس دقيقاً لأنّه كان نتيجة سلوك هؤلاء اللغويين ولم يكن برنامجاً معيارياً، بل استجابوا للحالة الحضارية لجمع اللغة كما جمعوا الشّعر استجابة للحاجة وجمعوا اللغة استجابةً للحاجة أيضاً، ومن أفواه الأعراب أي من أفواه أصحابها، فالباحث الاجتماعي عامل ميداني وينقل الكلام والثّقافة مباشرةً، لا عن طريق الكتب والملخّصات، وهذا استمرّ حتى القرن الرّابع، ثمّ جاءت الرّواية لتدوّن السّمع، لذلك نقول إنّ اللغة لم تُأخذ من الكتب بل من أهلها من البدو في مواطنهم.