وعد.. نابليون بونابرت!
حسن حميد
لنا كلّ الحقّ أن نواقف التحولات التي حدثت في أوروبا، بدءاً من القرن السادس عشر، لنرصد تأثيراتها الموجعة، ومتغيّراتها التي مسّت العالم كلّه بأضرار كبيرة مدمّرة، ونحن كنّا، ولم نزل، جزءاً من هذا العالم، وقد أصابتنا آثار هذه التحوّلات بكوارث لم تزل آثارها وجيعةً وحارقةً، ومنها تغوّل القوة الغربية التي بدت على شكل احتلالٍ واستعمارٍ للكثير من بلدان العالم، ومنها بلادنا، ونهب وسرقة خيراتها كيما تغتني دول الغرب وتزدهر على حساب غيرها من الدول والبلدان، وتدّعي فيما بعد، أنها هي وجه الحضارة وصورتها الزّاهية!
من هذه الآثار الوخيمة للتحولات في أوروبا، أواقف، هنا في هذا الحيّز الكتابي، تبني الأفكار المسيحية المتهوّدة التي سمّاها مفكرو الغرب بالإصلاح الديني التي ظهرت مع بداية القرن السادس عشر، وفكرتها الأساسية هي فكرة دينية، لكنها ما لبثت أن أصبحت تياراً ثقافياً يتبناه بعض المثقفين، ثم صارت في القرن الثامن عشر تياراً سياسياً، أي أنّها تحوّلت من فضاء لاهوتي إلى فضاء سياسي. وكان من آثار هذا التحوّل؛ المناداة بتأسيس وطن لليهود في فلسطين، اعتماداً على خلفية دينية، أظهرتها ونادت بها حركة الإصلاح الديني، ومنها مفهوم التهوّد.
وقد كان نابليون بونابرت (1769 – 1821) أول رجال السياسة في الغرب ينادي، وعلى نحو صريح جهير، بإعادة الاعتبار لليهود، وإنشاء وطن لهم في فلسطين، وليس في غيرها من أمكنة أخرى! وقد بلوَر نابليون دعوته هذه استناداً للاتصالات التي جرت بين زعماء يهود فرنسا والحكومة الفرنسية عام 1798 وتمخّضت عن إعداد خطة لإنشاء كيان يهودي في فلسطين، إن نجحت الحملة الفرنسية في احتلال مصر والمشرق العربي (بما فيه فلسطين)، وذلك مقابل تقديم اليهود القروض المالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمرّ آنذاك بضائقة اقتصادية خانقة، إضافة إلى المساهمة في تمويل الحملة الفرنسية على الشرق بقيادة نابليون بونابرت، وليس هذا فقط، بل تعهّد زعماء اليهود لفرنسا ببث الفوضى وإشعال الفتن وإحلال الأزمات ونشر ثقافة الخوف في المناطق التي ستصل إليها الحملة الفرنسية، وقد توهّم نابليون بونابرت أنّ بمقدور اليهود عامة، ويهود فرنسا خاصة، تقديم كلّ ما يساعده على تحقيق مشروعه السياسي الهادف إلى إنشاء إمبراطورية تديرها الحكومة الفرنسية، وبذلك تسيطر على مقدرات العالم كلّه، لذلك أصدر نابليون حين وصل بحملته إلى مصر عام 1798 بياناً أو وعداً حثّ فيه جميع يهود آسيا وأفريقيا لكي يلتفّوا حوله ويناصروا حملته من أجل إعادة (مجدهم الغابر)، وإعادة بناء (مملكة القدس القديمة)، وحين احتلّ مصر واستتب له الأمر، توجّه إلى فلسطين، لكن أهل فلسطين واجهوا قوّاته بالمقاومة الباسلة في عكا عام 1799، لذلك أعاد وكرّر وعده لليهود لكي يناصروه، وقد طلب من حاييم فرحي، الوزير اليهودي والمستشار المالي للحاكم العثماني والي عكا، أن يناصره! فقال لهم: إنّ العناية الإلهية التي أرسلتني إلى هنا على رأس هذا الجيش، قد جعلت العدل رائدي، وكفلتني بالانتصار، وجعلت من (أورشليم) مقري العام، والعناية الإلهية ستعينني على نقل هذا المقر فيما بعد إلى دمشق قلب المشرق. وقد نادى نابليون اليهود قائلاً: يا ورثة فلسطين الشرعيين! ودعاهم لنصرته، والعمل معه من أجل عودتهم إلى (وطنهم) والمحافظة عليه لكي يصبحوا أسياد بلادهم الحقيقيين. وناداهم: سارعوا، إنّ هذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين، كي تعبدوا (يهوه) علناً وإلى الأبد.
هذا الوعد البونابرتي الذي سبق وعد آرثر بلفور (1848 – 1930) بقرن من الزمان وأزيد، يؤكّد أنّ الذهنية الغربية واحدة في نهجها وإيمانها بالإصلاحات التي بدأت دينية ثم غدت سياسية، كما يؤكّد أنّ هزيمة نابليون، قرب أسوار عكا، هزمت وعده أيضاً، وهذه الهزيمة ستتبع بهزيمة وعد بلفور مهما امتدّ الزمن أو طال.
hasanhamid55@ yahoo.com