خلود الفكرة والرؤية.. شبنغلر في عالم اليوم
سمر سامي السمارة
من المؤكد أن خلود الفكر والرؤية في السياسة العالمية هو علامة نادرة تدل على عظمة الفكرة وصاحبها، لذا يمكن القول أن كتاب “انحطاط الغرب” للكاتب أوزوالد شبنغلر، الذي كُتب قبل قرن من الزمان يستحق القراءة غير مرة.
في عام 1922 كتب المؤرخ والفيلسوف الألماني أن الحضارة الغربية القديمة تعاني من حالة تدهور دائم لا عودة عنها، مضيفاً أن هذا الأفول يتجلى بكافة مظاهر الحياة، بما في ذلك الدين، والفن، والسياسة، والحياة الاجتماعية ،والاقتصاد والعلوم. بالنسبة له، كانت الأبعاد السياسية، والاجتماعية، والأيديولوجية لهذا الانحدار واضحة في إخفاقات الطبقة السياسية الغربية على جانبي المحيط الأطلسي.
رأى شبنغلر أن الأيديولوجية والازدراء تجاه الأغلبية الصامتة تستهلك السياسيين المتمركزين غالباً في المدن الكبيرة، ووصفهم بأنهم “نوع جديد من الرُحّل، متماسكين بشكل غير مستقر، سكان المدينة الطفيليين الذين لا يمتون للتقاليد بصلة، أمر واقع تماماً، غير متدينين، أذكياء غير مثمرين، وشديدي الازدراء لمواطنيهم”.
وفي الوقت الحاضر، تتوافق قيادة الاتحاد الأوروبي ومقرها بروكسل، من خلال ازدرائها المتكرر لسيادة الدولة، تماماً، مع هذا التعريف.
يقول شبنغلر الذي يعتقد أن الانحطاط في السياسة يعني هيمنة الأيديولوجيا على العمل: “يرتكب المنظرون خطأً فادحاً في الاعتقاد بأن مكانهم يكون في الصدارة وليس في الأحداث التدريبية”، غير مدركين كم يصح هذا اليوم. ولعل سقوط رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس التي ضحت بالاقتصاد في مذبح الأيديولوجيا خير دليل على ذلك. واقع الحال يُظهر أن العقيدة التي تقضي على التماسك الاجتماعي والازدهار حاضرة أيضاً في هدم القدرة التنافسية التصنيعية في أوروبا، خاصة عندما يرفض الساسة الأوربيون قسراً الطاقة الروسية الرخيصة، أو عندما تختار ليتوانيا خلق مشكلة مع الصين دفاعاً عن “سيادة” تايوان.
في مواجهة هذه الأحداث، كان المفكر الألماني يكرر تأكيده أن “المنظّر السياسي يعرف دائماً ما الذي ينبغي عمله، ومع ذلك، فإن نشاطه بمجرد أن يقتصر على الورق، يكون الأقل نجاحاً وبالتالي الأقل قيمة في التاريخ”.
عندما نستمع إلى وزير الشؤون الاقتصادية الألماني، روبرت هاربيك، أو نظيرته في الشؤون الخارجية أنالينا بربوك، وهي تلقي محاضرة حول أولوية الأجندة الخضراء، أو وجوب الاستمرار في الدعم العسكري لأوكرانيا بغض النظر عما يعتقده الناخبون، لا يسعنا إلا أن نتذكر استفسار الكاتب فيما إذا كان لديهم أي فكرة مهما كانت عن الواقع الفعلي للسياسة العالمية، ومشاكل المدن العالمية، والرأسمالية، ومستقبل الدولة، وعلاقة التقنيات بمسار الحضارة، وروسيا، والعلوم؟
إن “النظام الدولي القائم على القواعد”، الذي أوجدته البديهية الغربية إثر نشوة ما بعد الحرب الباردة، واستخدمته لتبرير الهيمنة التي تقودها الولايات المتحدة، يذكرنا بالقول المأثور للكاتب بأنه “ليس هناك ما هو أسهل من التخلص من الأفكار الجيدة من خلال تأسيس نظام، حتى الفكرة الجيدة ليس لها قيمة تُذكر عندما يعلنها أحمق نمطي”، خاصةً عندما نسمع رئيس المفوضية الأوروبية فون دير لاين، أو رئيس الشؤون الخارجية بالاتحاد الأوروبي بوريل يكرران الحديث نفسه.
وحول المواجهة بين الشرق والغرب، فيما يتعلق بالصين، سلط شبنغلر الضوء على افتقار السياسيين الغربيين التقليدي إلى فهم الدوافع الرئيسية للتفكير الصيني المرتبط بـ 4000 عام من التاريخ، ومكانتهم في العالم مقارنة بـ الإطار الزمني الغربي الضيق الذي يستوعب الأحداث التي وقعت منذ عام 1500.
يرى شبنغلر أن التصور الغربي المستقل للتاريخ ينكر تاريخ العالم، فتاريخ العالم في عيون الغرب هو صورة عالمهم وليس صورة للبشرية جمعاء.
الاستثناء الأمريكي
كانت الفكرة الخطيرة القائلة بأن القيم الأمريكية، والنظام السياسي والتاريخ يهيئها للعب الدور الرائد في العالم موضع تساؤل، عندما أشار إلى أن القيم الأخلاقية مساوية للثقافات، لا أكثر ولا أقل، وأن لكل ثقافة معيارها الخاص، تبدأ صلاحيتها وتنتهي بانتهاء هذا المعيار، ويوضح قول شبنغلر الحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب.
بقدر ما أصبح من الصحيح سياسياً انتقاد أفكار نيتشه بعد تبني الأيديولوجية النازية لها، أكد شبنغلر أن مفهوم نيتشه الأساسي لإرادة القوة ضروري للحضارة الغربية، وهذا يتوافق مع الاعتقاد الغربي بتفوق قيمه وضرورة فرضها على الثقافات الأخرى، إذ يعيش الغربيون تحت تأثير الوهم البصري الهائل، فكلهم يطلبون من الآخرين الامتثال لقيمهم، وهم يقولون “يجب عليك” وفي قناعتهم بأنه يمكن، بل يجب تغيير أو تشكيله أو ترتيب أي شخص بما يتوافق مع النظام، وإيمانهم بفاعلية مثل هذا الطلبات لا تتزعزع.
بحسب شبنغلر، يلعب المال والسياسة والصحافة دوراً كبيراً في الحضارة الغربية، ففي السياسة يعزز المال العملية الديمقراطية خاصة أثناء الانتخابات، كما هو الحال في الولايات المتحدة بشكل متكرر، و الصحافة تخدم صاحبها ولا تنشر الرأي “الحر” ، تخلقه وتوجهه.
فيما يتعلق بحرية الصحافة، يتم تذكيرنا بأنه مسموح للجميع أن يقولوا ما يشاؤون، لكن الصحافة حرة في أن تنتبه إلى ما يقوله أو لا يقوله. يمكن للصحافة أن تحكم على أي “حقيقة” بالموت ببساطة من خلال عدم نقلها إلى العالم، فهي باتت “رقابة رهيبة للصمت تزداد قوة بحيث لا يدرك جماهير قراءة الصحف وجود هذه الرقابة الرهيبة”.
في هذا الصدد، يوجد تناظر مدهش بين فقر اليوم في المدن الأمريكية وملاحظته لروما في زمن القائد العسكري الروماني كراسوس، حين عاش شعب روما في بؤس مروع في مساكن متعددة الطوابق في الضواحي المظلمة، وهي محنة مرتبطة ارتباطاً مباشراً بعواقب التوسع العسكري الروماني، والتي تشير إلى الظروف الحالية في ديترويت، أو كليفلاند، وغيرها من المدن الأمريكية.
تمت قراءة انحدار الغرب لأول مرة على أنه خاتمة الحرب العالمية الأولى، أي الحرب التي أنهت جميع الحروب، لكن اليوم نأمل ألا يُقرأ على أنه مقدمة لكارثة جديدة.