الشاعر محمد الحريري.. صياد القوافي
أمينة عباس
بعد أن احتفت مديرية ثقافة حماة بمرور مئة عام على ولادته، عقدت ندوة في المركز الثقافي العربي في أبو رمانة، بعنوان “محمد الحريري شاعراً ومعلماً” لإحياء ذكرى هذا الشاعر الذي وصفه د. محمد الحوراني، رئيس اتحاد الكتّاب العرب، بأنه “صياد القوافي وخير من نظمَ القصائدَ مع مناضلي العالم الأحرار في قرنٍ هو قرنُ التحرر والكفاح الوطنيِّ، فكانت حياته مسيرة معطرة بالحريةِ والتمردِ، فالحريري لم يقف في أشعارهِ عندَ جغرافيا هذا العالم المترامي،فصار شاعراً كونياً، غزيراً في معانيه، مجدّداً في اختياراتِهِ الصائبةِ، منحازاً للمهمشين، فملأ الدنيا وشغلَ الناسَ لعقودٍ عاشها في الضنكِ والعوزِ والفاقة”.
شاعر ومعلم
وتحدث د. راتب سكر عن التيار الثقافي النهضوي الذي كان سائداً في ربوع العاصي، مطلع القرن العشرين، بطبيعته الإنسانية الشاملة التي وجدت تـأثيرات متنوعة ومتفاوتة في أفراد أسر كثيرة في حماة، منها أسرة الحريري التي قدمت من حوران إلى حماة واستوطنتها والتي امتازت بروح إنسانية عالية وحبها للثقافات والفنون، وكان منزلها مدرسة للشعر والموسيقا، وأفاد منها كثيرون، مبيناً أنه في هذا الفضاء الأدبي والموسيقي نشأ شاعر المستقبل المشبع برؤى الإنسانية العالية محمد الحريري الذي تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في حماة في الثلاثينيات والأربعينيات، ثم انتقل إلى دمشق، وغدا طالباً في قسم اللغة العربية في كلية الآداب، وبعد تخرجه عام 1951 معلماً للّغة العربية في ثانويات دمشق راح يشجع الطلاب على كتابة الشعر وغيره من فنون الأدب، ومنهم الشاعر أيمن أبو الشعر الذي كان من أكثر طلابه تمثلاً لمؤثراته في أدبه، ولاسيَّما شعره ذو الطوابع السردية والمسرحية، تأليفاً وإلقاء، كما عمل محرراً في مجلة “المعلم العربي” لسنوات، وقد عُرف عنه تعاونه مع زملائه المعلمين في ميادين الثقافة والأدب، ولاسيّما تعاونُه مع مدرّسَي اللغة العربية وصديقيه القاصّ سعيد حورانية الذي استلهم شخصية الحريري في إحدى قصصه، والشاعر شوقي بغدادي الذي جمع قصائد الحريري بعد وفاته وأشرف على إصدارها ضمن منشورات اتحاد الكتّاب العرب. وأشار سكر إلى الطابع الإنساني في شعر الحريري ويده الممدودة ترفع رؤى قصائده على جناح المحبة والإخاء، تمسح أسى الشقاء الإنساني عن جباه متعبي الأرض ومظلوميها في أقاصي أفريفيا التي حظيت وزنوجها الثائرون على ظلَّامهم باهتمامه، فكتب “أفريقيا الثائرة” المؤلفة من تسعة وستين بيتاً:
وطنُ المرء عزة وإباءٌ لا ترابٌ يشادُ صرحاً جميلا
فامنح المجْدَ من نضالك يا أسْوَدُ تمنحْ أدْغَالَكَ التبجيلا
موهبة فذة
ورأى د. إسماعيل مروة أن الحريري شاعر ذو موهبة فذة، غير أن اهتمامه بقصائد المناسبات لم يكن يمنحه وقت الصفاء مع شعرها دائماً، وعلى الرغم من ذلك فإن الدارس لشعره يجد بين قصائده التي قيلت في المناسبات تألقاً وجدانياً وفنياً من طراز جدير بالتقدير كقصيدته المهمة “لا تتركنا” التي قالها بمناسبة نقل رفات الأمير عبد القادر الجزائري من ضريحه قرب ضريح ابن عربي إلى موطنه الجزائر الذي نفي منه بجور المستعمرين، ومنها أبياته النشوى بشاعريتها:
“يا رفات الأمير أينَ الرحيلُ فُجع القبر فهو مضنى عليلُ
ذاب فيك الثرى وذبتَ عليه فعجبنا من منكما المحمولُ
أنا أخشى أن يرفض القبر تسـ ليمك والقبر كالرجال نبيلُ
أنا أخشى والنعشُ يَسْري وئيدا في دمشق، أن يعتريه عدولُ
وقدم مروة تحليلاً وجدانياً عميقاً لهذه القصيدة، مبيناً دلالات صورها الفنية فكرياً ووجدانياً، متوقفاً عند دلالات قصائده القومية اللاهبة مثل قصيدته عن عملية ميونخ الفدائية، ووازن بين قصائد الحريري في رثاء أساتذته وأصدقائه وقصائد أحمد شوقي وحافظ إبراهيم في هذا المضمار، محيياً الذكرى المئوية لميلاد الحريري وما تحمله من قيم الوفاء للشعر ورسالته وأصحابها.
ديوان يتيم
لم يطبع الشاعر محمد الحريري أياً من أشعاره في حياته، وهو الذي رحل في عمر الثامنة والخمسين عام 1980 وهو في ذروة مسارات عطائه الأدبي وعنفوانه، وبعد مضي خمس سنوات على وفاته قام اتحاد الكتّاب العرب الذي كان عضواً فيه بجمع ديوانه وقصائده المبعثرة هنا وهناك وطباعتها تحت عنوان “ديوان الحريري”.