الغرب يتحرك ببطء نحو التفاوض مع روسيا
البعث الأسبوعية –هيفاء علي
يحاول المفوضون الأوروبيون منذ زمن طويل العمل على إضعاف روسيا، ولديهم خطة لإنشاء مشتر واحد للغاز في الاتحاد الأوروبي لاحراج روسيا، لكن لم يخطر في بال هؤلاء المفاوضين أن المخرج الوحيد بالنسبة لروسيا هو إعادة تنسيق” التوزيع العالمي للعمل”، وبالطبع لا يمكن القيام بذلك إلا من موقع القوة.
في السنوات الأخيرة، عملت السلطات الروسية لإعداد وضع البلاد في موقع قوة، مقابل الأنغلو -ساكسونية العالمية ذات الموارد الطبيعية الهائلة التي تقودها الولايات المتحدة، لكن الأنغلو-ساكسون لا يشعرون أنهم يخسرون المواجهة الاقتصادية لصالح الصين ببطء، حيث تعتبر الأحكام الأمريكية الخاصة بـ” التوزيع العالمي للعمل” قاتلة بالنسبة لهم، ومن المحتمل أن يبدأ الانهيار غير المنضبط لنظامهم المالي في أي وقت.
إن النخبة الأمريكية تنقسم إلى مجموعتين لا يمكن التوفيق بينهما، ففي زمن أوباما، كان الرأي أن حل مشاكل الولايات المتحدة يكمن في تعميق العولمة، أما في عهد ترامب، يكمن في التحول إلى الدفاع الاستراتيجي، مع التركيز على حل المشاكل الداخلية، وخاصة الاقتصادية، ومع تولي العجوز بايدن السلطة تغرق الولايات المتحدة في حالة من الفوضى لدرجة أنها بحاجة ماسة إلى إصلاح شامل.
المشكلة أن الولايات المتحدة لا تستطيع تحقيق إعادة التصميم هذا دون ما تعتبره سحق الصين، بينما لا يزال الاتحاد الأوروبي في وضع جيد عندما يتعلق الأمر بـ “” توزيع العالمي للعمل”، وهناك فرص لتحسينه من خلال التعاون مع روسيا. لكن الزيادة غير المسبوقة في أسعار الغاز منذ آب الماضي كانت من تصميم ألمانيا، وذلك من أجل تبرير الحاجة الملحة إلى إيجاد مشتر واحد في الاتحاد الأوروبي، حيث أوصت سلطات برلين بتقليص عروض الغاز في السوق، وفي نفس الوقت، تم رفع الأسعار في أوروبا القديمة، وبالتالي، بات واضحاً أنه عاجلاً أم آجلاً سيتم قطعها عن الموارد الخارجية. في المقابل، لا تزال الصين تحتل مكانة جيدة في “التوزيع العالمي للعمل”، مع ادراكهم أن الولايات المتحدة ستعزز أساليب “الأنغلو-ساكسونية العالمية” لاحتواء الصين، بل وتحاول سحقها، لذلك كان الخط الرئيسي لعمل السلطات الصينية في السنوات الأخيرة هو إعداد البلاد للتصادم المباشر مع الأنغلو -ساكسونية العالمية.
بداية إعادة التوزيع الكبرى
في منتصف شهر كانون الأول من العام الماضي، قررت السلطات الروسية إطلاق “إعادة التوزيع الكبرى”، وفي البداية، سبق هذا الاطلاق إنذار بوتين في 22 كانون الاول 2021: “يجب أن يعود الناتو إلى حدود أوائل التسعينيات”، ومعنى الإنذار واضح ومفهوم، وهو أن التجاهل الذي كرره الغرب عدة مرات أعطى الحق، وفق تصورات روسيا الخاصة، في بدء إعادة توزيع كبيرة، وبدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، لأنها إحدى أدوات “إعادة التوزيع الكبرى”. لذلك لا يمكن اعتبار هذا الاجراء نوعاً من الظواهر الجيوسياسية الشاملة ذات الأهداف المحددة، لأن الهدف من وراء “إعادة التوزيع الكبرى” بسيط وواضح، وهو إعادة تنسيق التوزيع العالمي للعمل.
في المقابل، إن الغرب هو العالم الأنغلو-ساكسوني، وهدفه فقط هو الحفاظ على أقصى قدر ممكن من المناصب المفيدة في” التوزيع العالمي للعمل” أثناء “إعادة التوزيع الكبرى”، لكن احتمالات تحقيق ذلك مختلفة، فلدى الأنغلو ساكسونية العالمية موارد طبيعية هائلة والاتحاد الأوروبي ملزم باستقبال معظمها من الخارج، لذلك فإن استراتيجيتهم مختلفة حيث تعمل الأنغلو ساكسونية العالمية على فصل الاتحاد الأوروبي عن الموارد العالمية من أجل إضعافه كمنافس، وتعبئة الاتحاد الأوروبي للتصادم وجهاً لوجه مع الصين. ولتنفيذ عملية الإضعاف هذه، فإن الأمر يتعلق بقطع الاتحاد الأوروبي عن سوق التصدير الصيني بعدما أصبحت الصين الشريك التجاري الأكبر للاتحاد الأوروبي. من هنا إن التوجه الرئيسي هو التكيف السريع لدول الاتحاد الأوروبي مع الانفصال الحتمي للموارد الخارجية، والهدف الرئيسي للصين هو الحفاظ على أقصى قدر ممكن من المواقف المفضلة في “التوزيع العالمي للعمل” خلال “إعادة التوزيع الكبرى”.
الغرب مستعد لمناقشة إنذار بوتين
ظهرت أولى الإشارات الواضحة من الغرب حول استعداده لمناقشة إنذار بوتين عندما اقترح المستشار الألماني شولتز العودة إلى حالة ما قبل العملية العسكرية الخاصة في العلاقات مع روسيا. بينما تطرق ماكرون من جهته إلى التحضير لحوار بين روسيا وأوكرانيا، حيث أشار في مقابلة متلفزة إلى أن الهيكل الأمني الأوروبي المستقبلي يجب أن يوفر ضمانات لروسيا، وهذه موافقة مباشرة وصريحة من الغرب لمناقشة كيفية تنفيذ إنذار بوتين.
إذاً فإن العملية العسكرية الخاصة هي أحد أدوات روسيا لـ “إعادة التوزيع الكبرى” في مرحلتها الأولية، وقد تم تحقيق الهدف الجيوسياسي حيث تعرض الغرب لضربة كبيرة، وهو مستعد لمناقشة تنفيذ مصالح روسيا.
كما تم تحقيق الأهداف العسكرية للعملية العسكرية الخاصة، ويبدو أن الغرب يتفق مع اقتراح ماكرون الأخير. في الطرف الثاني، إن الموقف الجيوسياسي الأمريكي بسيط ومفهوم، إما، بالاعتماد على الأنغلو ساكسونية العالمية والاتحاد الأوروبي لتحقيق هدفهم فيما يعتبرونه ” سحق الصين”، ويدخلون عصر “البيريسترويكا”، أي إعادة الإعمار، أو يخسرون المواجهة الاقتصادية مع الصين. ولهذا السبب فإن الولايات المتحدة مهتمة للغاية بإيجاد حل سريع ما للمشكلة الأوكرانية، ولكن سيتعين عليهم قبول شروط روسيا المهتمة أكثر من الأمريكيين بإيجاد حل سريع للمشكلة الأوكرانية يقبله الغرب، ولكن شروط حل المشكلة الأوكرانية المشتركة، التي سيتم الإتفاق عليها، لن ترضي العديد من شركاء روسيا.