ثقافةصحيفة البعث

“حكي جرايد”.. ودراما المسرح التسجيلي

آصف إبراهيم

بالتعاون ما بين بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس وصندوق الأمم المتحدة للسكان، قدّم مركز “درب” في حمص العرض المسرحي الهادف “حكي جرايد”، تمثيل مجموعة من خريجي دورة المسرح التفاعلي التي أقامها المركز مؤخراً، وتأليف وإخراج زين العابدين طيار، على مسرح قصر الثقافة.

وفي هذا العرض، يقدّم طيار مجموعة من المشاهد المسرحية التي تحاكي الواقع القريب الذي يعيشه المواطن السوري عموماً، والحمصي خصوصاً، خلال سنوات الحرب وما بعدها، عبر لوحات درامية ساخرة تقترب أحياناً من الكوميديا السوداء التي تستنبط من المرارة ضحكة مخنوقة بوجع الحياة.

يبني العرض على أخبار جرائد عالمية تناولت أحداثاً مختلفة جرت في مدينة حمص، ليعيد تمثيلها كجريمة ترتكب بحق الإنسان في ظروف ومواقع عديدة، يضعنا أمام تحليلات متشعّبة ترصد الأسباب والنتائج والمؤثرات الجانبية المختلفة.
في العرض هناك خبر العروسين اللذين وجدا فاقدي الحياة في حديقة الدبابير وسط مدينة حمص، حيث الحكاية تقول إن العاشقين هما ضحية لقسوة الأهل ووصايتهما، الذين رفضوا زواجهما في مرحلة المراهقة والشباب وحتى بعد تخرجهما في الجامعة دون تقديم أية مبررات مقنعة للرفض سوى ممارسة الوصاية الأبوية، وحين يصلان إلى عمر الشيخوخة يوافقان فتكون النتيجة وفاتهما ليلة زفافهما، وهناك حادثة سقوط عامل الكهرباء التي يتحول الجميع حيالها إلى خطباء ومنظرين فيفارق الحياة دون أن يقوم أحد بإسعافه، وحسب مقولة “عندما تمرّ في حي العميان ضع يدك على عينيك” تحاول المرأة الوحيدة المبصرة في مدينة العميان فتح عيون الآخرين لكنها تفشل في ذلك فلا تجد حيلة سوى التشبه بهم والعودة إلى حالة العمى.

أخبار عديدة تستعرضها المسرحية ضمن “حكي جرايد” تسلّط الضوء من خلالها على المصاعب والخطوب التي تواجهنا، تلخصها أغنية جوزيف صقر “الحالة تعبانة يا ليلى”، منها حالة اضطهاد العمال في أماكن عملهم، والمثقف الذي يشقى في سبيل الحصول على لقمة عيشه، ووقوعه ضحية مجتمع متخلف لا يقيم وزناً للفكر والثقافة، ومشهد الأم التي يموت طفلها في السوق المسقوف دون أن يلتفت إليها أحد بسبب انشغالهم برسائل الغاز والمازوت والبنزين والسكر والرز، وكذلك مشهد موت رجل الأعمال الملياردير الذي يترك أمواله للكلب الذي يملكه ومشهد انطلاق حملة “سورية شعلة لا تنطفئ”، ويختتم العرض بهجرة الشباب وغرق السفينة وبقاء أمتعتهم معلقة في أماكنها في القارب.

استخدم المخرج السينوغرافيا الرمزية التي ساهمت في تعميق فكرة العرض وتعزيز المقولة التي تحيلنا إلى الإنسان الضحية المهدّد بحكم الإعدام الصوري الذي يفرضه واقع مرير لم يعد بمنأى عن قسوته سواد الناس الأكبر، فاللباس الأحمر الذي يرتديه كافة الممثلين يحيلنا إلى لباس السجناء المحكومين بالإعدام في غالب الأحيان، والجدران المغطاة بالجرائد تحيلنا إلى حدث مستمر يشكل مادة متوالدة للأخبار والتقارير الصحفية.

يستعين المخرج بشخصية حنظلة بطل ناجي العلي، رسام الكاريكاتير الفلسطيني الشهيد، ليربط بيننا وبين من سبقنا إلى درب الألم، وليقول لنا: لا تقف موقف المتفرج مما يحدث حولك، ولا تدر ظهرك للصورة التي تجسّد وجعك وهمومك.

العرض لا يتعامل مع حكي الجرائد كمصدر للخبر المزيف أو المسيس كما هو سائد ومتعارف عليه، بل يتعامل معها كمرآة تعكس حقيقة مرّة نعيشها يومياً.

“حكي جرايد” مسرح تفاعلي تجريبي حاول المخرج من خلاله ربط الدراما باليومي المعيش الذي بات يشغلنا ويؤرّق استقرارنا وأحلامنا وطموحاتنا.