في “حرب المصطلحات”.. الحرب أوّلها وآخرها كلام
أحمد حسن
كعادته، وضع اللقاء السوري الإيراني الأخير الذي “يكتسب أهمية قصوى في هذا التوقيت بالذات الذي يشهد تطوّراتٍ إقليمية ودولية متسارعة لتحقيق المصالح المشتركة للبلدين”، الكثير من النقاط على الحروف التي حاول البعض مؤخراً تحويرها بما يناسبه في سياق حرب المصطلحات الدائرة رحاها على سابق ظن راسخ بأن الفوز فيها يعني النصر، أو حتى التخفيف من وقع الهزيمة، على أرض الواقع، وذلك – للحق – دأبهم منذ اللحظة الأولى حينما حاولوا، بالكلمة والصورة، بناء واقع افتراضي يتوه فيه السوريون عن صلب قضيتهم وجوهرها الحقيقي، ويخسرون، بالتالي، معركة وجودهم الفاعل والطبيعي دون طلقة واحدة كما يقال.
وكما نعرف جميعاً، فإن حرب المصطلحات حرب متكاملة الأركان تُخاض غالباً في سياق موازٍ للحرب العسكرية، لكن الملاحظ هذه الأيام أنها انتقلت من مرحلة الهجوم والتدليس الهائل الذي كان طابعها المميّز طوال الفترة الماضية، إلى مرحلة التبرير -والتدليس أيضاً- هذه الأيام لسبب واضح وجلي يتمثّل بأنها تُخاض في مرحلة تراجع وانكسار، بيد أن ذلك لا يعني أبداً انكسار حدّة ضراوتها وشراستها المعتادتين.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تابعنا مؤخراً بعض خصوم سورية وهم يحاولون تشويه علاقتها بحلفائها من مدخل “المسؤولية عن الضائقة المعيشية الخانقة”، من جهة أولى، ويصفون، من جهة ثانية، المنطقة التي يحتلها الأمريكي بأنها “باتت مقتولة استراتيجياً”، وأنها غير مهمّة لواشنطن، وما إلى ذلك، وهذا في بعض جوانبه “كلمة حق يُراد بها باطل”، لأن القائلين بهذا يريدون في الحالة الأولى صرف النظر عن المتسبّب الحقيقي في الأزمة وهو المحتل الأمريكي وحصاره الاقتصادي الجائر وغير الشرعي، ويسعون في الثانية إلى التشويش على حقيقة دامغة تقول إن أيّ انسحاب للمحتل، وهو قادم حكماً، سيحدث نتيجة لسبب واحد – صنعه أبناء سورية بدمائهم وأرواحهم – مفاده أن كلفة المحافظة على الاحتلال، والأتباع، أصبحت، وتصبح يومياً، أكبر من عوائدها، وبالتأكيد يمكن أيضاً سحب هذا المصطلح وتطبيقه على المحتل التركي للقول: إن الدافع الرئيس لخطواته الأخيرة ليس ما يُعلن بل بسبب أن احتلاله لأراضينا أصبح مقتولاً، وقاتلاً في الآن ذاته، وأن كلفته، التي صنعها السوريون، أصبحت أكبر ممّا يمكن أن يتحمّله حتى في الداخل التركي ذاته.
لذلك ليست القضية هي “قضية الوجود العسكري لواشنطن في شمال البلاد، وما يثيره من نقاشات عديدة حول الجدوى الاستراتيجية، ومدى واقعية الأهداف مقابل الكلفة المنخفضة” كما قال موقع “ناشونال إنتريست”، وليست القضية أيضاً “الوجود التركي” في الأراضي السورية لمحاربة الإرهاب أو انتظاراً لانتهاء العملية السياسية!، كما يدّعي البعض، فهذا تزوير فاضح وغير مقبول، لأن القضية كل القضية تتمثّل في صلب عملية الاحتلال ذاتها دون أي اعتبارات أخرى لا تصمد أمام أيّ نص للقانون الدولي أو مبادئ حسن الجوار المتعارف عليها.
من هنا نقرأ أن “الشروط” السورية للقاء أي جهة شاركت في الحرب عليها – وتقوم اليوم بطرق أبواب دمشق مضطرّة – ليست شروطاً، كما يحاول أصحاب “المصطلحات المضللة” وصفها، بل بدهيات وطنية بسيطة يجب على الجميع احترامها والإقرار بها أولاً كخريطة طريق واضحة ومفصّلة، فالدولة السورية، كما قال الرئيس الأسد، “تنطلق دائماً في كل مواقفها من حرصها على مصالح الشعب السوري، وأنها لن تسير إلى الأمام في هذه الحوارات إلا إذا كان هدفها إنهاء الاحتلال ووقف دعم التنظيمات الإرهابية”، وفي هذا الكلام تصويب واضح لمصطلحات عدة أرادها البعض عنواناً للحركة السياسية الدائرة اليوم.
أما ما نشاهده من رفض “البعض” لإنهاء الاحتلال، سواء الأمريكي أم التركي، لأراضٍ سورية، وما رافقه من تذلّل ومناشداتٍ وتذكير بـ “الصداقات” وبـ “سابق الخدمة المخلصة”، فيمكن، بالركون إلى المصطلحات ذاتها إعادته إلى “متلازمة استوكهولم” الشهيرة، لكن هذا تزوير آخر لا يعفيه، بالمحصلة والحقيقة، من صفة الانحطاط الكامل والخيانة المشهودة، والتاريخ واضح في هذا المجال.