أمريكا أقل من ديمقراطية وأكثر من أوليغارشية
عناية ناصر
قال أبراهام لينكولن: “ثلاثة مبادئ أساسية يعتقد أنها يجب أن تدعم الديمقراطية الأمريكية، حكومة الشعب، من قبل الشعب، ومن أجل الشعب”. بعد ثلاثة عقود، قال عضو مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو مارك حنا شيئاً رائعاً عن الديمقراطية الأمريكية: “هناك شيئان مهمّان في السياسة: الأول هو المال، ولا أتذكر ما هو الثاني”.
لطالما كانت الانتخابات الأمريكية باهظة الثمن، لكن انتخابات التجديد النصفي لعام 2022 لا تزال تبرز باعتبارها الأكثر إسرافاً في تاريخ البلاد، فوفقاً لمؤسسة “أوبن سكريت”، وهي منظمة غير ربحية مقرّها واشنطن والتي تتبع تدفق المساهمات السياسية في الولايات المتحدة، تجاوز إجمالي الإنفاق في المنافسة على المقاعد الفيدرالية، ومكاتب الولايات خلال الانتخابات 16.7 مليار دولار، حيث لم يقتصر الأمر على تحطيم الرقم القياسي لعام 2018 البالغ 14 مليار دولار، بل تجاوز هذا المبلغ أيضاً الناتج المحلي الإجمالي لعام 2021 لأكثر من 70 دولة. فقد بلغ متوسط الإنفاق في سباق أعضاء مجلس الشيوخ في ولايات جورجيا وبنسلفانيا وأريزونا وويسكونسن وأوهايو أكثر من 200 مليون دولار لكل منهم، فأين ذهب المال؟.
يعتقد لينكولن أنه من أجل الحكم، يجب أولاً الحصول على موافقة المحكومين. ومع ذلك، فإن الأمريكيين اليوم لا يختارون المرشحين الذين يريدون، لكنهم مجبرون على قبول أحد أولئك الذين، إما أثرياء بما يكفي، أو يمكنهم حشد الثروات ليكونوا في حلبة السباق الانتخابي.
كانت التكلفة بالنسبة للشخص الذي يقوم بحملة للحصول على مقعد في مجلس النواب، في عام 1990 (407500) دولار، بينما كانت في عام 2020 (2.35) مليون دولار. وبالنسبة لمجلس الشيوخ، في عام 1990، كانت 3.87 مليون دولار، وفي عام 2020 كانت 27.16 مليون دولار. قال حاكم إلينوي جيه بي بريتزكر، الملياردير متفاخراً، إنه أنفق أكثر من 150 مليون دولار على حملته.
وفي انتخابات التجديد النصفي لعام 2022، تجاوز إنفاق أكثر من 90 في المائة من المرشحين الحدّ إلى مجلس الشيوخ، وكان هذا صحيحاً بالنسبة لـ 95 بالمائة من المنتخبين في مجلس النواب. من المؤكد أن ملايين الدولارات التي تتدفق ليست صدقة، بل كاستثمارات، إذ من المتوقع أن تجلب عوائد لمساهميها، وخاصة بالنسبة لـ 1 في المائة الأعلى من السكان الذين يسيطرون على أكثر من 90 في المائة من ثروة البلاد.
ووفقاً لصحيفة “نيويورك تايمز”، فإن 15.4 في المائة من إجمالي المساهمات السياسية في انتخابات التجديد النصفي لعام 2022 جاءت من فاحشي الثراء، بالإضافة إلى التمويل المباشر، وبالتالي يمكن للنخب الثرية أيضاً تشكيل الأجندة السياسية باستخدام “الأموال المظلمة” التي تجمعها من خلال لجان العمل السياسي، وهي لجان عمل سياسي مستقلة للإنفاق فقط.
يرى الاقتصادي الأمريكي البارز بول كروغمان أن “التفاوتات الهائلة في الدخل والثروة تترجم إلى تفاوتات مماثلة في النفوذ السياسي”، وأشار إلى التناقض بين التفاوت المتزايد في الدخل والسياسات التي لا تزال تؤدي إلى انخفاض معدلات الضرائب على الشركات والدخل المرتفع، مما جعل الحدّ الأدنى للأجور أقل مما كان عليه في الستينيات، ويخلص إلى أن “أمريكا أقل من ديمقراطية وأكثر أوليغارشية مما نظن”.
والفساد مستوطن في الأوليغارشية، فقد وُجد أن زوج نانسي بيلوسي يقوم بصفقات تتزامن مع قرارات الكونغرس الرئيسية خلال فترة تولي بيلوسي لمنصب رئيسة مجلس النواب، حيث بلغ متوسط عائدات استثمار بول بيلوسي 56٪.
من الانتخابات إلى سنّ القوانين والحكم، تعمل العملة الأمريكية على الضخ على الآلة السياسية الضخمة في الولايات المتحدة، وخلال هذه العملية يصبح صوت المواطن العادي غير مسموع. أجرى خبراء في السياسة، مارتن جيلينز من جامعة برينستون وبنيامين بيغ من جامعة نورث وسترن دراسة بعنوان “اختبار نظريات السياسة الأمريكية: النخب ومجموعات المصالح والمواطنون العاديون”. كانت خلاصة استنتاجهم أن “النخب الاقتصادية والمجموعات المنظمة التي تمثل المصالح التجارية لها تأثيرات مستقلة كبيرة على سياسة الحكومة الأمريكية، في حين أن المواطنين العاديين ومجموعات المصالح الجماعية ليس لديهم تأثير مستقل أو قد يكون لهم تأثير ضئيل”.
تعمل السياسة المالية على إقصاء المواطنين الأمريكيين العاديين عن العمليات الديمقراطية، فهي تمتصّ الروح من الديمقراطية الأمريكية، فالهيكل الذي تمّ إنشاؤه لخدمة الناس هو الآن بمثابة بنك ينهبه أصحاب الجيوب العميقة!.