خِلاف
عبد الكريم النّاعم
رسالة وصلتْني عبر صفحة التّواصل الاجتماعي، كما يسمّونها، حتّى لكأنّه لم يبقَ من فضاء للتواصل أيّ فسحة أخرى، وهذا أمر مُقلِق وله دلالاته. مفاد الرسالة يقول إنّه ملّ من الكتابات الجّادّة، وممّا لا يمتاح إلاّ من مُفرزات ما يُحيط بنا، وربّما كان هذا نتيجة أنّه لا يتابع إلاّ ما هو جادّ، وإلاّ فإنّ هذا الفضاء الأزرق فيه من كلّ ما لا يخطر ببال من سطحيّة، وابتذال، ومن كلّ ما لا هدف له إلاّ تخريب السليم في حياة العباد، وفيه ما يفيد على قلّة، وشكى من فقدان الطّرْفة من حياتنا، لكأنّها النّاقص الوحيد الذي نبحث عنه؟!! وقد أثار ما سبق لديّ رغبة التوقّف عند ظاهرة النّكتة الطريفة المعبّرة في المجتمعات، وفي مختلف الأزمنة.
لقد أشار الذين سبقونا من أبناء هذا الشعب إلى مسألة دوام الجدّ، فقالوا: “إنّ النفس لَتملُّ فالتمسوا لها طرائف الحِكَم”، وأشدّد على التوقّف عند “طرائف الحِكَم”، أي البُعد عن التهريج، وعمّا يجرح المشاعر، ويخلّ بآداب المجتمع.
توقّفتُ عند الأزمنة القاسية، والتي ما تكاد تُحتمَل لغرابة ما يستجدّ فيها من مُنكَرات، وتساءلتُ: هل تحتمل “الطّرْفة”، وهل تجد الطّرفة مكاناً لها لترى مَن يبتسم وهو مقهور، أو مَن ينشرح وهو مغبون؟!!
أرجّح أنّ لون الأزمنة التي نعيشها هو الذي يفرز ما يناسبه، وأنّ الخروج من طبيعة الزمن المَعيش يبدو فجّاً، وربّما فظّاً، وهذا ليس بإطلاق، فثمّة شعوب، لأسباب كثيرة مُتداخلة ومُتشابكة ثقافيّة، تاريخيّة، وربّما دينيّة، قد خرجت على ما يكاد يكون عامّاً، فكان لها خصوصيّتها، كأهلنا في مصر الذين اشتُهروا بالنّكتة، مهما تقلّبت الظروف والأحوال، حتى رُوي أن الزعيم الرّاحل جمال عبد النّاصر كان يطلب من أجهزة الأمن التي ترصد واقع الشارع، وما يتداوله الناس، أن ترفعه إليه في كلّ يوم، وأصرّ على أن يكون في المُقدّمة النّكات السياسيّة، ليستقرئ منها مزاج الشارع.
تشاء المُصادفة أنّ يصل ما وصلَني على الشاشة الفضيّة، وكنتُ قبل قليل أقرأ في كتاب، يسرد ما له علاقة بالطّرافة، ولو من مأْخذ بعيد، ولكنْ قبل أن أصل إليه لا بدّ من شرح بعض مصطلحاته التي سترد.
(مُرجِئ)، فقد اختلفتْ المذاهب الإسلاميّة في مصير مُرتكِب الكبيرة، فقال البعض إنه إن تاب وأحسن قد يُدخِله الله في رحمته، وقال آخرون بل مصيره إلى النّار، وثمّة مَن قال بل أمره متروك إلى الله، إن شاء عفا، وإنْ شاء عذّب، هؤلاء هم المُرجئة.
(قَدْري) وهم الذي يقول إنّ الله قد أَقْدَر العباد على أفعالهم، فالإنسان مخيّر في أفعاله، فسُمّوا القدْريّين، وقد خالفهم مِن خالف.
(ناصبي) هو الذي يناصب آل بيت الرسول (ص) العِداء.
(رافضي) هو الذي يرفض أيّ بيعة عُقدت في الإسلام عدا بيعة “عليّ”(ع).
في فترة ما من فترات الحكم العباسي انتشر أهل الكلام والجدل والزنادقة انتشاراً بدأ يهدّد وحدة المجتمع، فعُيّن وُلاة للنّظر في كلّ ما يُرفع عن هؤلاء لمعاقبتهم، والحدّ من انتشارهم، في ذلك الوقت تقول الرواية “ذكر لي بعض أخواني أنّ رجلاً من العامّة بمدينة السلام (بغداد)، رفعَ إلى بعض الولاة الطّالبين لأصحاب الكلام على جار له إنّه يتزندق، فسأله الوالي عن مذهب الرجل، فقال: “مُرْجئ، قدْري، ناصبي، رافضي”، وممّا قصّه عن المُشتكى عليه: “إنّه يبغض معاوية بن الخطاب، الذي قاتلَ عليّ بن العاص”.
فقال له الوالي: “ما أدري على أيّ شيء أحسدك، أعلى علْمك بالمقالات، أم على بصرك بالأنساب”!.
aaalnaem@gmail.com