رأيصحيفة البعث

وفي المحن تتكشّف المعادن

أحمد حسن

يُقال، وتلك مقولة مجرّبة، إن المحن تكشف معادن الرجال، وهكذا كان للزلزال الذي أصاب البلاد أن يكشف مرة أخرى عن جوهر السوريين الحقيقي الذي لم تستطع حرب غاشمة أن تخفيه على الرغم من كل ما رافقها من عمليات “كيّ للوعي” في محاولة مستميتة، ودنيئة، لتغطيته تحت حجاب كثيف من الوعي المزيّف، أو على الأقل للتأثير فيه والتقليل من سطوعه الباهر.

فمع بدء تكشف الآثار الكارثية والمأسوية للزلزال، بل منذ اللحظة الأولى له، انفتحت خطوط الاتصالات بين جميع السوريين للاطمئنان على السلامة، وفي اللحظة التي ارتفعت فيها الأيدي بالدعاء امتدّت هذه الأيدي ذاتها نحو مساعدة المنكوبين، وانفتحت البيوت والقلوب لاستقبال من تضرّر منزله أو تهدّم داره أو نُكب بعزيز، واندفع الأهل، بما يملكون، لمساندة أهلهم في كل مكان، حيث شهدنا بطولاتٍ فردية وجماعية وصل بعضها إلى حدّ تعريض النفس للخطر مقابل إنقاذ حياة سوري آخر.

وفي اللحظة ذاتها، وضع الرئيس بشار الأسد في اجتماع طارئ لمجلس الوزراء خطة تحرّك طارئة على المستوى الوطني تقودها غرفة عمليات مركزية تعمل على مدار الساعة بالإضافة إلى فرق ميدانية على الأرض، لبحث أضرار الزلزال والإجراءات اللازمة لمعالجة آثار ما حصل بدءاً من عمليات الإنقاذ الأوليّة وصولاً إلى رعاية المنكوبين وتأمين كل احتياجاتهم بكل أصنافها وأشكالها وأنواعها.

وهكذا، ومرة أخرى، أعاد السوريون اجتراح معجزتهم من جديد، بدءاً من دمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ وصولاً إلى أبعد نقطة تختزل كل حبّة تراب منها قصص محبة وتعاون يعرف السوريون أنه لا يمكن لأي مجلّد أن يضمّها بين دفتيه فضمّتها قلوبهم وغذّتها أرواحهم التي حمت بالأمس الوطن من أعدائه ورفرفت اليوم بحنوٍّ فوق كل من تضرّر من الزلزال، معلنين للمرة الألف عزمهم النهائي على الحياة التي ابتدأت قصتها من رباهم وسطعت شمسها على طرقاتهم التي سار عليها رسل الله لبث نور الحق والحياة في العالم لتضيء له فجراً جديداً طالما حاول أعداء النور إطفاءه.

والحق أن السوريين يعرفون بالغريزة أن الحياة قدر وخيار في الآن ذاته، وقد اختاروها بوعي كامل، وأثبتوا اليوم، كما في كل يوم سابق، أنهم، رغم المأساة، جديرون بها، لذلك لم يتوقّفوا طويلاً عند البرد والفقر والحصار وندرة الإمكانات وقلة الحيلة، بل سارعوا لفعل ما عليهم، تاركين لمن تسبّب في هذه الحرب الذل والعار، حيث سيقول التاريخ يوماً إن عدواً متجبّراً حاصر السوريين في لقمة عيشهم ومنع عنهم الدواء حين احتاجوا إليه، ورفض بشراسة وحش متعطش للخراب إعادة إعمار ما دمّرته الحرب حين بدأت بوضع أوزارها، فذلك لو حصل في موعده لكانت حصيلة الزلزال أضعف وأقل مأسوية مما رأينا، لكن هذا التاريخ سيقول أيضاً إن السوريين فعلوا بأيديهم العارية وإمكاناتهم البسيطة، ووسط حصارهم، الظالم والجائر، ما عجز عنه الكثيرون، وإنهم، مرة أخرى، مطلع شمس الحياة وأبناؤها البررة المخلصون.