ناظم مهنا المبدع والمفكر والكاتب الإنسان
خبر رحيله وسورية تشهد ارتدادات الزلزال المدمّر الذي كلم قلوب الجميع كان صاعقة كبيرة في الوسط الثقافي عموماً، فمن يعرف ناظم مهنا عن قرب يعرف جيداً طيبة قلبه وثقافته الواسعة ودماثة خلقه، والأجمل أنه من النادر أن تجد إجماعاً على مناقب شخص وميزاته كما نجده في شخصية ناظم مهنا.
في عام ٢٠١٦، تسلّم ناظم مهنا رئاسة تحرير مجلة “المعرفة” السورية، التي تأسست عام 1962 وتعدّ من أقدم وأهم المجلات العربية الثقافية، واستثمر فيها درايته بالعمل الصحفي انطلاقاً من إدراكه أهميتها وثقة القرّاء بها؛ واستمر في رئاسة تحريرها حتى يوم وفاته.. كان أباً وأخاً وصديقاً لكل من نشر في ” المعرفة”، وسنجد على صفحات التواصل كلمات خطها بيده على صفحات كتبه حين أهداها لمحبيه كذكرى نقشها بحبر قلمه كما نقش مثيلاً لها بنبض الروح النبيلة في قلوبه.
ولد الأديب ناظم مهنا في مدينة جبلة عام ١٩٦٠، وتخرج في جامعة دمشق- قسم اللغة العربية، اشتهر بكتابة القصة، التي احتلت الحصة الأكبر ضمن إبداعاته؛ وعلى الرغم من إتقانه لأنواع أدبية أخرى، فقد كتب الشعر والرواية والمقالة وتمثيليات إذاعية للأطفال، لكنه كان يعدّ القصة فناً تعبيرياً يتمسّك به ويفضله عن غيره من الفنون الأدبية الأخرى، وقد عُدّت تجربته القصصية من أهم التجارب القصصية السورية والعربية الحديثة لما تمتاز به من ميل إلى الحداثة، حيث إنه كان يكتب ويستوحي أفكاره من التاريخ المغرق في القدم.
نُشرت أول قصة له في عام 1979 في مجلة “الثقافة” لصاحبها الشاعر مدحت عكاش، ثم بدأ النشر في الصحف اللبنانية منذ مطلع الثمانينات.
وقد صدر له عدد من المجموعات القصصية، منها: “الأرض القديمة”، “منازل صفراء ضاحكة”، “حراس العالم”، “مملكة التلال”، “بابل الجديدة” وهو عبارة عن مقالات متنوعة في الثقافة والأدب، وكتيبان عن الشاعرين الراحلين “ممدوح عدوان”، و”محمد الماغوط”، ضمن سلسلة “أعلام مبدعون”، الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.
وداعاً ناظم مهنا، وداعاً عمود نور من أعمدة الثقافة السورية النبيلة. وقد كتبت ابنته لمى وهي ترثي والدها:
“بابا بعد عدة أيام سنعود لمنزلنا، كيف سندخل إلى ذلك المنزل، قد تبكيك جدرانه، كرسيك على طاولة الطعام ستشتاق إليك، تينتك التي تطعم منها الأصدقاء ستثمر مجبرة، مكتبتك أيضاً تشيخ، نظاراتك الطبية، أقلامك بانتظار أناملك، تقول لبعضها غداً يعود ناظم ويتعبنا بأوراقه.
هل تذكر عندما قلت لي أن أعامل أبواب المنزل برفق، أذكر دائماً مقولاتك يجب علينا أن نبرّر للناس كأنهم أطفال تائهون، كيف لم تكن حقوداً أو شريراً وأنت تعيش بهذا المكان، كنت مكتفياً بعائلتك الصغيرة ومنزلك الهادئ.
أمي تقسم أنها ستقرأ كلّ ما كتبته طيلة حياتها، الآن أحتضن قبعتك الشتوية بعد أن عانقتها أمي وجدتي وأخواتك، قبعتك أيضاً تفتقد رأسك حبيبي.
بابا استيقظ الآن كما فعل بطل الرواية “كانكان العوام” التي كنت ترويها لنا، الرجل الذي استيقظ بعد الموت، بعد أن غنى أصدقاؤه له.
كيف تترك كلّ محبيك، أصدقاءك، أنا وأختي وأمي التي لا تستطيع العيش دونك، مع من ستقرأ أمي الكتب، مع من ستشرب قهوتها، اليوم ذهبنا إلى قريتنا جميعاً، كما كنا نسافر في السنين التي مضت، تغني لنا طوال الطريق، اليوم كنت أنت أمامنا في سيارة إسعاف ونحن خلفك.
بابا لم يكن جالساً بقربي اليوم، كنت مستلقياً، طريق السفر يمتلئ بذكرياتنا، أمي لا تقول مات زوجي، أمي تقول مات أبونا، أنا الآن لا أرى إلا ابتسامتك الساخرة تلك”.