الرسائل.. في التراث الأدبي والإنساني
عبادة دعدوش
الآداب بلا شك فنون “رسوليَّة”، أي أنها فنون ذات رسالة، فجل الروايات والنصوص المسرحية والقصصية رسائل نقلتها إلينا حمامة الورق من زوايا لفئات اجتماعية ذات قضايا أو معاناة مُهملة، أو يجب الإضاءة عليها، فما روايتا “المُراهق” و”المقامر” لدستويفسكي على سبيل المثال، إلا رسائل للمجتمع حول هذه الأنماط من الشخصيات كي نتفهمها أكثر، ويسهل علينا التعامل معها، أو اكتشافها، أو تجنبها، بحسب رغبتنا، وهي رسائل إلى تلك الفئات غير المُدركة لِكُنْه ما تفعله، كي تصبح أكثر يقظة وتتعظ وتتجنب سوء العاقبة.
الرسائل لم تقف عند دورها كأداة تواصل وجداني وتغيير في عواطف الآخرين، بل حتى في أفكارهم ومعارفهم، فالتواصل مفتاح إنجازات البشرية، وهو حاجة إنسانية عُليا، فالإنسان، في أحد تعريفاته الأكثر انتشاراً، “كائن اجتماعي”، وقد اتخذت الرسائل دورها كوسيلة لتبادل الآراء والتعارف والمعرفة كالمراسلات بين كبار العلماء والفلاسفة، مثال ذلكما جُمع في كتاب بعنوان “رسائل يونغ و فرويد”، وهما من أشهر علماء النفس.
مِن أقدم الرسائل المُدوَّنة
لا يشترط بالرسالة أن تكون من فرد إلى فرد، فقد تكون خلاصة رحلة وتجربة وربما حياة بأكملها، كالرُقم الحجرية التي أمر جلجامش بأن يتم نصبها في كُبرى ساحات مملكته بعد أن يئس من الوصول إلى ما يجعله خالداً، واكتشف أن الخلود الذي كان يبحث عنه هو للآلهة فقط، أما الخلود لملكٍ بشري مثله، فلا يمكن تحقيقه إلا بنشر العدل والعمران والازدهار، فيبقى بذلك ذِكر الرجل خالداً، ويالها من رسالة سامية نعتزُّ أنها من تراث منطقنا.
من الرسائل ما هو عابر لـ “الزمكان” ولكل المُحددات
كثير مما يُطلق عليه مُسمى الآداب الخالدة هو حالة فنية تكتنف رسائل إلى المجتمع، وحتى لو لم تتخذ شكل الرسالة التقليدي فإن فيها رسائل مُتضمَّنة.
ومن الجدير بالذكر أن بعض الشعراء قد خصصوا أجزاءً من قصائدهم كرسائل إلى أجيال المُستقبل، كما فعل نزار قباني في خاتمة قصيدته التي حملت عنوان “هوامش على دفتر النكسة”.
الرسائل لا تتقيد بأسلوب كتابة بعينه أو تميل إلى جنسٍ أدبيٍّ بعينه، فهي تراثنا العربي تضمنت في الشرائح العُليا من المجتمع، الخطبة والشعر والسجع.. إلخ.
الرسائل السامة
ومن جهة أخرى، يمكن أن تحتوي الآداب والفنون كالأفلام السينمائية والعروض المسرحية على رسائل سامة تحوّل الفنون الجميلة إلى “حصان طروادة”، كبعض الأفلام والروايات التي ظاهرها جميل “تحفة فنيّة”، وباطنها خطاب كراهية وتحريض.
فيلم “الحياة جميلة” فيلم إنساني عذب جميل لكن في نهايته نكتشف أن كل ذلك من قَبيل دس السُمَّ بالعسل، حيث يُطالب الطفل اليتيم الناجي “بطل الفيلم” بتسليح الصهاينة بالمعدات الثقيلة!
الرسائل عبر التكنولوجيا
مع تطور التكنولوجيا، أصبح هناك ما يُعرف بـ “الرسائل الاحتيالية” التي تُداعب آمال الناس بالثراء وما شابه، وتسلبهم قدر المستطاع من أموالهم، ولعلنا مُعظمنا قد تعرض إلى مثل تلك الرسائل، لكن ما هو أخطر منها هو تلك الوجوه التي تعبر عن “مشاعر” يتم استخدامها وإرفاقها بكثرة مع الرسائل من قبل شبابنا وشاباتنا، فإن الابتذال في التعبير عن المشاعر، وكسر الحواجز مع الآخرين عبر استخدام فيّاض لرموز تُعبّر عن مشاعرنا هو مسألة خطرة، وتكمن خطورتها في كونها محدودة، وأكثر من تسعين بالمئة منها عبر عن مشاعر مُتضخِّمةَ مُبالغ فيها (“وجه يبكي شلالات دموع، وجه نصفه فم ضاحك تكسو جانبيه دموع الضحك.. إلخ”)، إن استخدامنا المُستمر لها يجعل المشاعر الإنسانية تفقد قيمتها مع الزمن، حيث سنمر بالوجوه الضاحكة بشدة، أو الباكية بمَرار، وكأنها مسائل مألوفة!