عبد المعطي أبو زيد.. حين صعد الموج على الشاطئ
أكسم طلاع
نحن تلاميذ الصف السابع من إعدادية الكرمل، التابعة لوكالة الأونرا، والكائنة في مخيم اليرموك، دخلنا قاعة الرسم لأول مرة، وكنت أتوقع أن أجد مرسماً كبيراً تملؤه الألوان واللوحات وفرش الألوان، لكن هذه التوقعات ذهبت أدراج الريح حين تفاجأت بقاعة كبيرة تنتظم فيها طاولات الرسم العالية والخزائن المغلقة بلونها الرمادي والأزرق الغامق، وبتلك الكراسي العالية الأرجل.. إنه مرسم للأعمال الهندسية حيث المساطر موزعة بأناقة فوق أطباق الكرتون الأبيض، وعلى كل منها قلم رصاص وممحاة.. مكان أنيق يحكمه شاب أكثر أناقة وهدوءاً يجلس على كرسيه في مقدمة الصف، وأمامه طاولته الخاصة التي لا نعلم ما سيرسم لنا هذا النهار، هذا الأستاذ الهادئ.
إنه عبد المعطي أبو زيد، الفنان الفلسطيني الذي ستبدأ معه سيرة امتدت لعمر قارب الخمسين عاماً تجمعنا الصداقة والمحبة، بعد أن بدأت بتهيب أول الأمر، وارتباك فرضته تلك المساطر وأقلام الرصاص التي ترسم وفق قواعد المنظور الهندسي مكعبات واسطوانات، في ظرف كانت الثورة الفلسطينية قد فرضت وجودها العسكري والثقافي بين أبناء شعبها وطبعت حواسه بنزعات ثورية حالمة على كافة صعد الحياة والتنشئة، وقد كان يشد حماسي رسم الكوفية أكثر من تلك القواعد العلمية الباردة لرسم المساقط والمنظور التي يفرضها علينا هذا الأستاذ الذي يجعل من درس الرسم حصة قريبة من حصة الرياضيات اللعينة، والأكثر من ذلك يؤنبنا حين نقدم له العمل مرسوماً دون العناية بنظافة هامش الرسم، أو يكون الكرتون الأبيض متسخا من أيدينا الصغيرة التي لن يرحمها بمسطرته الطويلة!؟
ذات يوم، علق أستاذنا على الجدار ملصقاً يعبر عن فدائي بشكل شجرة تفرع بالبنادق والكوفيات وجذورها تمتد في الأرض، وقد كتب على مساحة واضحة من الملصق عبارة “واضربي في القاع يا أصول”.. وطلب منا رسم الملصق، ولكل حقُّ التصرف بالعبارة المرافقة، وقد نفذت العمل قبل نهاية الحصة لكن العبارة المرافقة كانت مختلفة عما هي عليه في الأصل، فقد كتبت بالحبر الصيني الأسود: “واضربي في القاع يا جذور”، بدل “يا أصول”، وبخط النسخ العريض، وقد أثنى على العمل ببرودة معهودة.
لم ينته العام الدراسي إلا وكنت التلميذ الجليس له في الفرصة، حيث كان يسمح لي بالدخول إلى قاعة المرسم التي لا يغادرها أبداً حتى نهاية الدوام، فقد كان يعمل في إخراج مجلة “الطلائع” الصادرة عن قوات الصاعقة، ويرسم الموتيفات ومشاريع بعض اللوحات الخاصة له، وقد كان يطلب مني لاحقاً كتابة بعض العناوين الصغيرة أو الترويسات بالخط النسخ الصحفي أو الخط الديواني.. المهم أن هذا الرجل الصديق والمعلم في الوقت نفسه لم تنقطع علاقتي به إلا حين دعاني للانضمام إلى اتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين بصفته رئيس الاتحاد آنذاك، وله حسابات انتخابية مثل الآخرين، وقد اعتذرت منه لمبررات خاصة حينها تتلخص في أن بعض الفصائليين المنفرين قد أرهقوا فنون المخيمات بحساباتهم البعيدة عن لغة الإبداع والفن، والمجابية للغة الدعائية “الثورجية”..! المهم أن عبد المعطي أبو زيد يبقى منزهاً بلوحته التي جعل منها فلسطين التي يستعيدها رسماً حيث البيوت الملونة والمتعانقة بقباب مسالمة وأقواس الروح البيضاء التي يعيشها بنقاء هذا الفنان الرائد من الجيل الثاني للفن التشكيلي الفلسطيني، مثله مثل عبد الحي مسلم ومصطفى الحلاج ومحمد الوهيبي وعلي الكفري، الذين استطاعوا أن ينقلوا التشكيل الفلسطيني من فن البوستر إلى فن اللوحة التي تخاطب ذائقة العالم بلغة الجمال العميقة.. وقد سار على نهج الفنان عبد المعطي أبو زيد عشرات الفنانين، وأثر بتجاربهم تأثيراً عميقاً حتى أن أي معرض يقام للفن التشكيلي الفلسطيني في سورية لن ينجو من بصمة أبو زيد في التصوير، حيث الألوان الطازجة والمساحات النظيفة والمرأة في مقدمة اللوحة مطرزة الثياب، وعلى رأسها منديلها الأبيض.. اللوحة الأكثر طهارة وخلاصة لواقع البيئة والقرية والمدينة الفلسطينية، وكأن حيفا تنهض من جديد تفتح شرفاتها للبحر والقصائد العالية القادمة من جبل الكرمل على لسان شاعر ثورتها ابن قرية البروة، الراحل محمود درويش.
وداعاً عبد المعطي أبو زيد، الفنان الذي ولد في فلسطين وواكب نكبة شعبه وناضل من أجل قضيته العادلة بريشته وألوانه.. أظن أنك الآن وأنت في السماء تذكر حين رسمت الشهيدة دلال المغربي يوم عمليتها البطولية، وكتب على الملصق الذي رسمته “عروس فلسطين تقيم دولتها المستقلة”.. نعم.. يا أستاذي، حين قلت لك اليوم في فلسطين: “صعد الموج على الشاطئ”، واليوم لن نكون إلا أكثر وفاءً لسيرتك الجميلة ووفاء لفلسطين.