قصص تختلف في الوقائع وتلتقي في النتائج.. الاضطرابات النفسية لدى الأطفال الوجه الآخر لتداعيات الزلزال!!
دمشق _ لينا عدره
سارة (اسم مستعار) طفلة تبلغ من العمر 13 سنة، تعاني من مشاكل نفسية سابقة نتيجة إصابتها بمرض معين، وهي تعيش الشعور نفسه بعد الزلزال، وقد بدأت تعاني من نوبات بكاء مستمر لا تتمكن بسببه من مفارقة والدتها على الإطلاق، لتُلزم الأم في الوقت الحالي بالبقاء معها على مدار اليوم.
ربيع “اسمٌ مستعار” آخر لطفلٍ يعاني من مرض التوحد، يبلغ من العمر 8 سنوات، بُترت ساقه وبات يعاني من مشاكل هياجٍ وعدوانيةٍ مفرطة. يقبع “ربيع” في المشفى وحيداً بعد أن فقد كل أفراد عائلته جراء كارثة الزلزال.. قصته تعتبر من أكثر القصص المؤثرة لأطفالٍ وجدوا أنفسهم مرغمين بمفردهم على مواجهة حياة قاسية بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معنى!!.
تختلف القصص المؤثرة من حيث الأحداث ولكنها تشترك في النتائج. وقد يعتبر البعض أن الحديث في مثل هذه الظروف المأساوية عن قصص المعاناة النفسية الفردية، أو حتى عن الصحة النفسية، بشكل عام، رفاهية مطلقة، إلا أن لأصحاب الاختصاص رأياً مختلفاً تماماً، حيث تتقدم الصحة النفسية بأهميتها على الصحة الجسدية، خاصةً بعد ما شهدناه من ارتفاعٍ ملحوظٍ في نسب الإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة، إثر الزلزال، ما يجعل تقييم الوضع النفسي الحالي أمراً في غاية الأهمية بغية اتخاذ إجراءات علاجية لمساعدة المتأثرين ودعمهم نفسياً، خاصةً وأن مشاعر القلق والهلع نتيجة الكارثة ما زالت ترافق الكثير من الناس حتى الآن، ولاسيما الأطفال، وفق ما أكد د. مضر أبو شنين، أخصائي الأمراض النفسية في مدينة حلب، والذي نوه إلى أن التوجه في اللحظات الأولى للكارثة نحو تأمين الاحتياجات الإغاثية كان طبيعياً ومفهوماً، كما أن أغلب الأهالي لجأ إلى الأقارب، أو إلى مراكز الإيواء، فكان من الصعوبة مراجعة اختصاصي نفسي، إلا أنه مع مرور الأسبوع الأول بدأ الوضع ينجلي بشكلٍ أوضح، لتبدأ معه الشكايات النفسية، لذا بدأت المباشرة بتحقيق خط علاجي للاضطرابات النفسية للمتضررين.
وكشف د. أبو شنين أن أعداداً كبيرة من الأهالي بدأت تراجع الأخصائيين النفسيين بمساعدة من المنظمات الإنسانية والجمعيات الإغاثية، وتمثلت أبرز الحالات التي تمت ملاحظتها باضطرابات النوم والقلق ونوبات الهلع وحالات الدوار، تُصاحبها أعراض جسدية كتسارع دقات القلب والرجفة وبرودة الجسم والأطراف وضيق النفس، وهي اضطرابات تعتبر طبيعية في المرحلة الأولى.
يؤكد أبو شنين أنه، ومن خلال مسح دقيق لم يقتصر على الأطفال، بل امتد ليشمل الآلاف ممن أُجبروا على إخلاء بيوتهم بسبب التصدعات، ووجدوا أنفسهم أمام مشهدٍ غايةً في القسوة تمثل بهدمها أمام أعينهم، لتختلط عليهم مشاعر الحزن والحسرة لضياع تعب السنين، وليعيشوا صراعاً داخلياً، لا مأوى لديهم ومتروكين أمام مصير مجهول.
ويضيف د. أبو شنين: من البديهي أيضاً أن يتراجع الوضع النفسي للموجودين في مراكز الإيواء، لأن انعدامٍ الخصوصية لاشتراك الجميع بالحمامات والحياة الجماعية المكتظة، إضافةً إلى احتمالات التعرض للتحرش والعنف القائم على النوع الاجتماعي.. كل ذلك سيترك آثاراً نفسية سلبية جداً لدى أشخاصٍ استيقظوا ووجدوا أنفسهم بين ليلةٍ وضحاها من غير مسكن ومن دون عمل، لا بل باتوا بحاجة لمعوناتٍ وإغاثة، مع شعورهم بأنهم أصبحوا بلا قيمة فقدوا كل ما أنجزوه عبر سنوات حياتهم، يراودهم شعورٌ بعدم جدوى أو أهمية وجودهم، ما قد يدفع بالبعض للانتحار أو تعاطي المخدرات أو الإدمان بمختلف أشكاله، وكلها حالات لن تظهر الآن، إلا أننا سنلحظها بعد فترةٍ من الزمن في حال استمر الوضع على حاله.
وأعاد أبو شنين التذكير بأن المرحلة الأهم بعد تلبية الاحتياجات الأساسية تتمثل في تقديم العلاج النفسي الأولي لنُشعر الشخص بالأمان من خلال الاستماع إليه وإعطائهه مساحةً كافية للتعبير والحديث ليتمكن من التخلص من حالته، ثم يأتي الانتقال إلى تقديم الخدمة التخصصية أو خدمة الطبيب أو المعالج النفسي، مع التأكيد على عدم حاجة كل الحالات لأدوية، كون بعضها أعراضاً طبيعية، ولأن الاضطرابات تخضع لمعايير تشخيصية تشمل المدة والحدة والتواتر. وقال إن أعراض اضطرابات الشدة بعد الرض، والتي تشمل الذكريات المؤلمة والصور التي يتخيلها المريض وتخطر في ذهنه وتمنعه من الاستمرار في أداء واجباته وتبقيه حبيس الماضي يعاني من الخوف ونوبات البكاء، تنتشر بشكلٍ كبير بين كل الفئات، دون استثناء، سواء عند الشباب أو كبار السن، وهي تتطلب الخضوع لعلاجٍ دوائي أو سلوكي أو لكليهما، حسب تقدير المشرف على العلاج.
وفيما يخص الدواء، “هناك الكثير من الأصناف النفسية التي تنتج وطنياً وبكميات مقبولة إلى حدٍّ ما، رغم انقطاع بعضها من الأسواق، نتيجة الاحتكار”، إلا أن المشكلة الأكبر – يضيف د. أبو شنين – تتمثل بأن أسعار الأدوية مرتفعة جداً، على الرغم من تدخل الكثير من الجهات لتأمينها، كمبادرة مشفى ابن خلدون للأمراض النفسية في حلب، حيث نزلت الكوادر الطبية إلى الشارع ومراكز الإيواء لإجراء مقابلات سريرية للأهالي وتوزيع بعض الأدوية مجاناً، إضافةً لما قدمته الجمعيات والمنظمات الإنسانية.
ولأن الحديث عن تبعات الزلزال، النفسية والاقتصادية والاجتماعية، لن ينتهي بيومٍ وليلة، وسيمتد لسنوات عديدة، لا بد من التركيز على الاحتياجات النفسية، والإسراع بإيجاد حلول خاصةً بعد مضي أكثر من شهر ونصف على الكارثة، وهي فترة كافية لامتصاص الصدمة من قبل الجهات المعنية التي باتت على علم ودراية بما يتوجب عليها فعله وتقديمه، وكي لا يتحول الحديث عن كارثة الزلزال إلى مجرد فقاعةٍ إعلامية و”ترند” سرعان ما ينتهي ينتهي على حساب وجع مئات آلاف المنكوبين!!