دراساتصحيفة البعث

فشل المملكة المتحدة في التصالح مع هويتها

عناية ناصر 

ليس من قبيل المصادفة إصدار المملكة المتحدة، في يوم الكومنولث، والذي صادف في الثالث عشر من الشهر الحالي، تحديثها للمراجعة المتكاملة للسياسة الدفاعية والخارجية، وجاء ذلك بالتزامن مع زيارة رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إلى الولايات المتحدة، حيث عقد قمة ثلاثية مع نظرائه جو بايدن، والأسترالي أنتوني ألبانيز، وضعوا خلالها تفاصيل حول تحالف “أوكوس”.

وصف سوناك الصين بأنها تمثل “تحدياً للنظام الدولي”، ووضع إطار عمل للعسكرة المتزايدة للسياسة الخارجية البريطانية في أعقاب الحملة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ. وفي اليوم نفسه، أعلنت المملكة المتحدة أيضاً أنها ستزيد الصادرات المتعلقة بالغواصات إلى جزيرة تايوان. على الرغم من ذلك، زعم سوناك أيضاً أنه “عندما يتعلق الأمر بالشؤون العالمية، لا يمكنك تجاهل الصين”، مستشهداً بـقضية تغيّر المناخ، والصحة العالمية، واستقرار الاقتصاد الكليّ.

على الرغم من استخدام سوناك للغة أكثر ليونة من استخدام سلفه ليز تروس، إلا أنه من الواضح أنه حوَّل السياسة الخارجية البريطانية نحو المواجهة مع الصين بناءً على طلب من الولايات المتحدة، وإلى أن تؤسّس بريطانيا استقلالاً ممكناً واستقلالية في سياستها الخارجية بعيدة عن إملاءات الولايات المتحدة، لا يمكن أن يؤخذ ما يُسمّى بـ”التعاون” مع الصين على محمل الجد، لأن لندن ليست هي صاحبة القرار الحقيقي.

إن السياسة الخارجية البريطانية المعاصرة مبنية على أيديولوجيا انعزالية في مقابل “المصلحة الوطنية” الجادة، وقد أفرز نجاح استفتاء مغادرة الاتحاد الأوروبي لعام 2016 تحولاً منهجياً في السياسة الخارجية لبريطانيا، والتي رأت أنها تتجاهل المكاسب الاقتصادية، في مقابل الدعوة إلى الحنين للإمبراطورية والاستثناء الأيديولوجي.

وكان السبب الأساسي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو الانقسامات الاجتماعية في المملكة المتحدة التي تفاقمت بسبب السياسات الاقتصادية التي لا تفي بالاحتياجات المعيشية للناس العاديين، إلى جانب فشل المملكة المتحدة في التصالح مع “هويتها ما بعد الإمبراطورية”، ورفض المملكة المتحدة لاحقاً الانتماء إلى أوروبا، مما أدى إلى علاقة خلافية مع الاتحاد الأوروبي حتى عندما لم يكن لديها رغبة في المغادرة.

الآن، نظرة المملكة المتحدة إلى العالم مصبوغة بالاستثنائية الناطقة بالإنكليزية، والاعتقاد بأن بريطانيا لا تزال قوة عظمى صاعدة يمكنها استخدام قوة أسطولها البحري لفرض إرادتها على البلدان الأخرى، وضبط ما يُسمّى وفق زعمها بـ “منتهكو القواعد” مثل الصين، تعكس الطبع الفظائع والجرائم المروعة التي ارتكبتها في البلاد خلال القرن التاسع عشر. وعند اتخاذها قرار الانضمام إلى مساعي واشنطن المعادية للصين، تخلت المملكة المتحدة فعلياً عن علاقتها مع بكين كشريك اقتصادي مفيد، حيث أعلن سوناك نهاية “العصر الذهبي للعلاقات” مع الصين العام الماضي.

تنظر المملكة المتحدة إلى بكين في الوقت الحالي بحكم الأمر الواقع كدولة معادية يجب احتواؤها وتتبع تفضيلات الولايات المتحدة، وليس تفضيلاتها. عند القيام بذلك، لا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن المملكة المتحدة قادرة على التعاون بشكل مستقل مع الصين بخلاف أي شيء تسمح به الولايات المتحدة، حتى عندما يكون ذلك على نفقتها أو مصالحها الخاصة، فعندما أرادت المملكة المتحدة،على سبيل المثال، مشاركة شركة “هواوي” في شبكة الجيل الخامس في بريطانيا، أجبرتها الولايات المتحدة على تغيير مسارها، الأمر الذي  أدى إلى تكاليف فاقت المليارات. وعندما أرادت المملكة المتحدة السماح باستحواذ صيني على شركة تصنع رقائق 200 “نانومتر” غير الاستراتيجية، طالبت الولايات المتحدة المملكة المتحدة باستخدام حق النقض ضدها.

تأتي الحملة العدائية ضد الصين من قبل المملكة المتحدة وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية في الداخل، فالناتج المحلي الإجمالي البريطاني في حالة ركود، ولم يتعافَ بشكل كامل من جائحة كوفيد-19، كما أن الدخل آخذ في الانكماش، والتضخم آخذ في الارتفاع، ولم تعد الشركات الدولية تعتقد أن بريطانيا استثمار مربح.

ومع ذلك، فإن المملكة المتحدة تنفق الأموال الطائلة “الإنفاق الدفاعي” على منطقة ليست جزءاً منها. ناهيك عن القول إن حكومة سوناك تواجه تراجعاً كبيراً في شعبيتها، وذلك من خلال ما أظهرته بعض استطلاعات الرأي التي جعلت حزب العمال يتقدم على حزب المحافظين بحصوله على 50 بالمائة من الأصوات.

باختصار، تعتبر بريطانيا دولة في حالة تدهور، لكنها الآن تؤيد النهج القائل بضرورة وقف الصين الصاعدة. لذلك، يجب على السياسيين البريطانيين الوقوف في وجه أسيادهم الدمى في واشنطن، والتوقف عن أن يصبحوا قوة للحرب والفوضى في جميع أنحاء العالم دفاعاً عن إرث الإمبراطورية، ولا يمكن لبريطانيا أن تسترد عافيتها إلا كدولة حديثة ومسالمة وديناميكية وبراغماتية تدرك أن الماضي قد ولّى، وأن الصين المعاصرة ليست من عهد أسرة تشينغ، ولن تتكرر الموروثات والإهانات القديمة.

ولا تزال المملكة المتحدة تعتقد أنها إمبراطورية عالمية، ولا تزال تعيش أمجاد الماضي، ولن يكون هناك أي ازدهار أو تقدّم ينتظرها إذا ظلت مستمرة في نهجها الحالي.