ملامح “الهروب الأمريكي الكبير من سورية” صدام علني وشحنات غضب.. تيارات رافضة للاحتلال تقابلها ضبابية في الموقف
البعث الأسبوعية- علي اليوسف
تتشابك الأحداث وتزدحم المنطقة بمعطيات كثيرة تؤكد جميعها على أن هناك تحولاً جوهرياً في الأفق، لكن من بين كل هذه المعطيات تبقى الولايات المتحدة العقبة الوحيدة في وجه أي تحول. منذ أسابيع تقدم النائب الجمهوري مات غويتز بطلب الى الكونغرس لانسحاب قوات الولايات المتحدة من سورية، وفي التصويت حظي مشروع القرار على تأييد 103 أعضاء، فيما قوبل برفض 321 آخرين. ثم جاءت الزيارة المفاجئة لرئيس الأركان الأمريكية المشتركة مارك ميلي إلى القاعدة غير الشرعية في سورية، حيث التقى القوات الأمريكية المحتلة للأراضي السورية منذ ما يقرب من ثمانية أعوام. ولدى سؤاله من صحفيين مرافقين له عما إذا كان يعتقد أن نشر حوالي 900 جندي أمريكي في سورية يستحق المخاطرة، ربط ميلي المهمة بأمن الولايات المتحدة وحلفائها، قائلا: “إذا كنت تعتقد أن هذا مهم، فإن الإجابة هي نعم”.
ما هو المهم؟
تعتقد الدولة العميقة أنه بانسحاب القوات الأمريكية ستصبح “أوراق اللعبة” في صالح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خاصة أن الاحتلال الأمريكي لسورية كان هدفه الاستحواذ عليها، لكن مع كل ذلك تلوح في الأفق ملامح “الهروب الأمريكي الكبير”، وذلك بسبب المعطيات الكثيرة من أهمها الاتفاق الايراني – السعودي، وزيارة الرئيس بشار الأسد إلى روسيا وتوقيع اتفاقيات عسكرية وسياسية واقتصادية. هذا “الهروب الكبير” وارد بقوة خاصةً أن التاريخ يسجل للولايات المتحدة هروبها في أكثر من مكان، فقد فعلتها من قبل في فيتنام عام 1973، عندما سحبت قواتها لتسقط سايغون بأيدي الشيوعيين عام 1975، ثم عاودت الكرّة مع اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 لتترك الشاه يتسول لجوءاً سياسياً رفضت منحه له ليعيش بمصر حتى وفاته، وأخيراً إنسحابها المذل من أفغانستان بعد التفاوض سراً مع طالبان.
وما دامت الدعاية الانتخابية بدأت فعلياً في الولايات المتحدة، فمن الطبيعي أن تكون عين كل رئيس أمريكي يتخذ قرار الحرب أو الإنسحاب على الناخب، ولا يعنيه مصير أتباعه وأدواته من القوى المحلية، وربما هذا ما يفسر حالة “الهدوء” التي تسيطر على دمشق وطهران وموسكو، فهذه الأطراف، تعرف تمام المعرفة، أنها ستكون في صدارة قائمة “الرابحين” عاجلاً أم آجلاً. في المقابل، فإن حلفاء واشنطن وأصدقاؤها، هم وحدهم من يتقلبون على جمر تقلبات سياستها الخارجية، وقراراتها المخيفة.
تحديات المشهد الإقليمي
يبالغ السفير الأمريكي جيمس جيفري، الذي تولى عدة مناصب في السلك الدبلوماسي خلال 7 إداراتٍ أمريكية، كان آخرها المبعوث الخاص في سورية، إن انسحاب القوات الأمريكية من سورية على غرار الانسحاب الأفغاني سيولد صدمة تزعزع الاستقرار بشكلٍ أكبر. لكن على ما يبدو أن جيمس جيفري يغازل دولته العميقة، فالولايات المتحدة فشلت في أفغانستان، كما أنها فشلت في سورية لجهة اسقاط الدولة السورية، أما حجة محاربة “داعش” فهي الكذبة الكبيرة التي تقودها الولايات المتحدة للتذرع بالبقاء في سورية، رغم أن الجيش العربي السوري وحلفائه قضوا على معظم التنظيم الارهابي الذي ليس له وجود الآن سوى بالقرب من القاعدة الأمريكية غير الشرعية التي زارها رئيس الأركان الأمريكية المشتركة مارك ميلي.
من الواضح أن المبعوث الأمريكي يغمز إلى أن الانسحاب من سورية، وما سوف يصاحبه من توابع، سيعرض المصالح الإقليمية للولايات المتحدة للخطر، أي منح روسيا نطاقاً دبلوماسياً وعسكرياً أكبر لزيادة الضغوط على كل القوى المحتلة للأراضي السورية مثل “تركيا وإسرائيل” للانسحاب منها أيضاً، وبالتالي عدم منح النصر الاستراتيجي لـ روسيا. بمعنى آخر أنه في عصر يتسم بتزايد المنافسة الجيوستراتيجية، ترى الولايات المتحدة تجنب منح خصومها انتصارات استراتيجية لا داعي لها، وأن تجميد الوضع في سورية أمراً مثالياً، على حد وصف جيفري.
تياران من الاحتلال الأمريكي لـ سورية
يومياً تتناول الصحف الأمريكية موضوع الانسحاب من زوايا مختلفة، ويسود توجهان حول الوجود الأمريكي في سورية، الأول حاجج مطولاً لمصلحة خروج الأمريكي من سورية، أما الثاني فكان مع بقاء القوات الأمريكية.
يستند التيار الأول في نظريته إلى أنه بعد ما يقرب من ثماني سنوات من وصول أولى القوات الأمريكية إلى سورية، حان الوقت لواشنطن لسحب قواتها، خاصةً أنه لم يعد الوجود العسكري الأمريكي في سورية إستراتيجياً ذو قيمة، بل إنه بات نقطة ضعف. كما أنه ضمن معطيات الوضع الراهن في سورية يُضعف الموقف التفاوضي للولايات المتحدة فيما يتعلق بما يمكن الحصول عليه مقابل خروج الولايات المتحدة.
إن المهمة الرئيسية للوجود الأمريكي- حسب ادعائهم- في سورية كانت محاربة “داعش”، ولكن الأخيرة لم تعد لها وجود على الأرض، ما يعني أن نشاط ما يقرب من 900 عنصر من الجيش الأمريكي المتمركز في سورية انخفض أيضاً بشكل كبير من ذروته، لذلك إن المقاربة الأمريكية يجب أن تكون الانسحاب بشكل ودي، وبالتنسيق لحد ما مع روسيا.
في المقابل، يمثل التيار الثاني في نظريته سياسة أمريكا تجاه سورية، وهو التيار الذي يريد استدامة الأزمة، لا لتنفيذ مشاريع أو تحقيق نتائج ملموسة لأمريكا في سورية، ولكن لتكون عقبة أمام مشاريع الآخرين، وعقبة أمام إحراز أي تقدم باتجاه الحل السياسي في سورية، الذي سيعيد توحيد سورية والسوريين، ويعيد سورية إلى وضع يمكّنها من استعادة دورها التاريخي في المنطقة، وهذا سيعني تهديداً مباشراً للمشروع الوحيد الباقي لأمريكا في المنطقة، أي المشروع الصهيوني.
هذا التيار يتماشى تماماً مع السياسية الأمريكية تجاه سورية، وضمن هذه السياسات كانت طريقة تعامل أمريكا مع “جبهة النصرة” الإرهابية وعملها معها، حيث كانت المقاربة الأمريكية “للنصرة” تصب في أهداف أمريكا في سورية، والتي تم تمرّيرها في عدة تصريحات ومقالات: “إن وظيفة التواجد العسكري الأمريكي في سورية هي جعلها مستنقعاً للروس”. ولاحقاً: “إن الاستقرار في سورية والذي يجب الحفاظ عليه، هو من خلال الجمود، أي الاستمرار في ذات السياسات التي اتبعتها أمريكا في سورية، والحفاظ على الأمر الواقع المتأزم”.
إنّ مجرد وجود نقاش علني حول احتمالات البقاء أو الانسحاب، يعكس ليس فقط الحقيقة العامة المعروفة حول وجود انقسام عام ضمن النخبة الأمريكية حول مجمل السياسات الخارجية لأمريكا، بل وأيضاً أنّ هنالك ما يوجد الآن على المحك في إطار تقرير السياسات الأمريكية بما يخص مجمل المنطقة العربية، وضمناً سورية.
ولكي تضع الأمور في سياقها، تنبغي الإشارة إلى أنّ النقاش وبالأحرى الصدام العلني، وعلى هذا المستوى، بين الآراء الداعية للبقاء في سورية، أو الخروج منها، قد ازداد في الأونة الأخيرة، بمعنى أن ظهور هذا النقاش العلني، يعني أنّ المسألة عادت مرة أخرى لتصبح موضع بحثٍ جدي، ليس انطلاقاً من الانقسام الداخلي الأمريكي فحسب، بل وبطبيعة الحال انطلاقاً من الوضع الدولي المستجد بحدته ومخاطره.
لذلك تتسم المقالات الداعية للانسحاب، وتلك الداعية للبقاء بشحنة عالية من الغضب، إذ كيف يمكن لأي أحد أن يجرؤ على تقديم اقتراح كهذا “خروج القوات” وينسف كل ما عملت أمريكا على تحقيقه خلال العقد الماضي في سورية. بالتأكيد إن طرح فكرة انسحاب القوات الأمريكية من سورية ربما يمثل تياراً في أمريكا ينظر إلى الوجود العسكري الأمريكي في الخارج، وبالتحديد في سورية، أنه لم يعد ذا جدوى ولا يخدم المصالح الأمريكية، أو على الأقل أن مساوئه وخسائره باتت تفوق مزاياه ومكاسبه في إطار الصراع الدولي المحتدم.
لكن من الضروري الانتباه إلى أنّ ما يتفق عليه التياران، وما يمثّلانه، هو أنّ مسألة الوصول إلى حل سياسي وتغيير في سورية ليست فقط خارج قائمة الأولويات، بل هي وبشكل شبه معلن ضمن قائمة المحظورات التي تضر بالأمن القومي الأمريكي. إذ يجمع التياران على ضرورة إبقاء يد الكيان الإسرائيلي طليقة في تخريبها للمنطقة بأسرها، وسورية خاصة، ويجمعان على ضرورة إبقاء شكل من تقسيم الأمر الواقع في سورية، وهذه أهداف لا يمكن تحقيقها إذا انتقلت سورية نحو حل سياسي شامل على أساس القرار 2254.
استراتيجية الانسحاب الأميركى
عندما تولى الرئيس الأمريكي جو بايدن منصبه، كانت سياسة الولايات المتحدة تجاه سورية منفصلة عن الواقع. قررت إدارة بايدن إعادة ضبط أهداف واشنطن، والقضاء على كل من الفكرة غير المستقرة قانوناً لتأمين منشآت النفط السورية والرغبة غير العملية في طرد جميع القوات الحليفة من سورية. قرر فريق بايدن أن الوقت قد حان لإعادة تركيز جهود الولايات المتحدة على المهمة الأصلية، وهي أيضاً باسم “داعش”.
كان هذا التعديل مدفوعاً بالاعتراف بأنه على الرغم من سيطرة الميليشيات المدعومة من الولايات المتحدة على الجزيرة السورية، إلا أن النفوذ السياسي والدبلوماسي للولايات المتحدة لا يزال محدوداً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الخيارات البديلة قاتمة، مثل استثمار المزيد من الموارد المالية والعسكرية بشكل كبير على أمل تأمين نتيجة سياسية غير محددة من غير المرجح أن تتغلب على التحدي الأساسي في سورية، وهو أن الدولة السورية انتصرت في الحرب. كما أن قرار سحب القوات الأمريكية من سورية بعد وقت قصير من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان سيكون مكلفاً سياسياً ويزيد من زعزعة الثقة الإقليمية في التزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط.
يبدو أن إدارة بايدن تتمسك بالأمل في أن الظروف ستتغير أو تتحسن وأن تسوية تفاوضية أفضل أو الخروج من المنحدر سيصبح واضحاً. ومع ذلك ، فإن كل يوم يمر يزيد من المخاطر التي تتعرض لها القوات الأمريكية ويضعف موقف الولايات المتحدة فيما يتعلق بما يمكن الحصول عليه من روسيا مقابل رحيل الولايات المتحدة.
لقد أصبحت سورية على أبواب انفتاح عربي ودولي، ولم تعد “داعش” سبباً للقتال، فوفقاً لمشروع بيانات الأحداث وموقع النزاع المسلح، وهو مشروع غير ربحي لجمع البيانات وتحليلها ورسم خرائط الأزمات، إن نشاط “داعش” يسير في مسار تنازلي، وهو غير قادر إلى حد كبير على إجراء عمليات هجومية منسقة أو التخطيط لهجمات وتوجيهها في الخارج، وهذا يعني أن نشاط ما يقرب من 900 عسكري أمريكي يتمركزون في سورية قد انخفض أيضاً. حتى مع انخفاض نشاط “داعش”، تتزايد المخاطر على القوات الأمريكية، حيث ينبع بعضها من العلاقات المتوترة بين الولايات المتحدة وروسيا، والتي عرّضت للخطر ما كان في السابق خط اتصال احترافي نسبياً بين القوات الأمريكية والروسية العاملة في سورية، وينبع بعضها الآخر من الهجمات الصاروخية والطائرات المسيرة على مواقع أمريكية في العراق وسورية.
منذ تدخل الولايات المتحدة الأمريكية عسكرياً في سورية، كانت هناك عدّة تحرّكات تحدد إطار الأهداف الاستراتيجية لتواجدها بغض النظر عن الاختلاف في آليات التنفيذ بين إدارت أوباما وترامب وبايدن، لكن الجميع أولوا اهتماماً رئيسياً بربط أهداف التواجد العسكري بحماية الأمن القومي الإسرائيلي، وكان ذلك هاجساً يسبق التدخل، حيث برزت مخاوف من أن يؤدي انسحاب القوات الأمريكية إلى التأثير سلباً على الأمن القومي لإسرائيل في ظل الظروف التي تمرّ بها المنطقة، خاصةً أنّ سلوك الولايات المتحدة في سورية كان يوحي بوجود ذلك على قائمة أهدافها.
في الحقيقية، تتبنى الولايات المتحدة منذ ولاية أوباما مقاربةً تقوم على تنفيذ انسحاب من منطقة الشرق الأوسط، مقابل تركيز استراتيجيتها وسياساتها نحو المحيط الهادئ، حيث تبرز هناك قوة الصين على المستوى الإقليمي والعالمي لا سيما من الناحيتين الأمنية والاقتصادية، ولم تتغير هذه المقاربة في عهد الرئيس ترامب، وفي عهد بايدن، بل زادت ترسخاً.
ضبابية متعمدة
من الواضح أنّ الولايات المتحدة تتجه شيئاً فشيئاً لتخفيض التزاماتها في سورية، لتحقيق الانسحاب النهائي من المنطقة، لكنها تجادل على الآليّة الأنسب وتهيئة الظروف الملائمة لضمان مصالحها الاستراتيجية. بعد وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن للحكم، توقّع الكثيرون حدوث انفراج في السياسة الأمريكية في المنطقة ووضع استراتيجيات واضحة لملفات عدة، لكن إلى الآن لم تعلن الإدارة الأمريكية أية رؤية استراتيجية واضحة للملف السوري، وتكاد تكون غضّت الطرف عن الكثير من تفاصيله، وبالتالي فإنّه استناداً لتصريحات جميع المسؤولين المعنيين بالشأن السوري، وما يجري على أرض الواقع يتأكّد أنّ التواجد الأمريكي ليس طويلاً في سورية، وسيغادرونها، وهناك أكثر من سبب واضح بأنّ الأمريكان ليسوا متمسكين ببقائهم في سورية، وهو بطبيعة الحال مرتبط بالوضع السوري العام، فالانفتاح العربي على الدولة السورية وعلى رأسه دولة الإمارات العربية المتحدة يؤكد أن القبول الأمريكي له بصماته هنا.
كما أن هناك سبب آخر، وهو إن تأجيل الانسحاب الأمريكي من سورية مرتبط بالشأن الأمريكي العام والضغط الذي شكّله انسحاب إدارة بايدن من أفغانستان وعودة طالبان إلى الحكم، لتتريّث الإدارة الأمريكية في الانسحاب من سورية على الأقل إلى ما بعد الانتخابات الأمريكية. من جهة أخرى إنّ موضوع الانسحاب الأمريكي مرتبط كذلك بنتائج المفاوضات الإيرانية النووية التي ستقابلها استراتيجية جديدة في المنطقة، كما أنّ التصعيد الروسي الغربي في أوكرانيا من الممكن أن تعكس التوافقات هناك على مستقبل الوجود الأمريكي في سورية.
من الواضح أن واشنطن تتجنب الإعلان الصريح عن موقفها من مستقبل الوجود العسكري لقواتها في سورية، لكن المعطيات تشكل دلالة شبه قاطعة بالنسبة للكثيرين نحو التخلص من الملف السوري، وتلزيمه بشكل تدريجي للروس، مقابل بعض الشروط التي تعمل أمريكا على ضمان تحققها قبل مغادرة الأراضي السورية.
صحيح أن المواقف الأمريكية مرتبكة، إلا أن الهدف منها في الواقع هو إرباك الآخرين، لجهة عدم وضوح هذا الموقف بشكل حاسم. هذه الضبابية عززتها مزيد من التصريحات والتحركات الأمريكية خلال الأيام الأخيرة الماضية، وهي أنشطة لا تعبر عن الكثير، بدلالة المستوى المنخفض للمسؤولين الأمريكيين الذين يقومون بها، وبالتالي فإن الانسحاب ناجز، لكن التوقيت يبقى هو النقطة التي لا يمكن حسمها.