اتفاق السعودية – إيران.. تحول عميق في الجغرافيا السياسية
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
يعتبر الاتفاق الذي تم أعلن عنه في بكين في العاشر من شهر آذار الحالي بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، وإعادة فتح سفارتيهما بمثابة حدث تاريخي، وهو يذهب أبعد من مسألة العلاقات السعودية الإيرانية، حيث تشير وساطة الصين إلى أن العالم يشهد تحولاً عميقاً في الجغرافيا السياسية للقرن الحادي والعشرين. وقال البيان المشترك الصادر في بكين إن الاتفاق السعودي الإيراني جاء “استجابة للمبادرة النبيلة للرئيس شي جين بينغ”، و أعربت كلاً من السعودية وإيران عن “تقديرهما وامتنانهما” لشي جين بينغ، والحكومة الصينية “لاستضافة المحادثات ورعايتها، والجهود التي بذلتها من أجل إنجاحها”.
لكن اللافت للنظر هو أن الولايات المتحدة، التي كانت تقليدياً القوة المهيمنة في سياسات غرب آسيا لما يقرب من ثمانية عقود، لم يكن لها أي تواجد في هذا المشهد. ومع ذلك، يتعلق الأمر بالمصالحة بين أكبر قوتين إقليميتين في منطقة الخليج، الأمر الذي يشير إلى انهيار هائل للدبلوماسية الأمريكية. وسيظل ذلك بمثابة علامة سوداء في إرث السياسة الخارجية للرئيس بايدن. ويرجع مثل هذا الفشل الكارثي إلى حد كبير إلى حماسته لفرض معتقداته المحافظة كعنصر مساعد للقوة العسكرية الأمريكية وإصرار بايدن المتكرر على أن مصير البشرية يتوقف على نتيجة الصراع الكوني بين الديمقراطية والاستبداد.
لقد أظهرت الصين أن غلو بايدن وهمي ويتعارض مع الحقائق، فإذا كان خطاب بايدن الأخلاقي غير المدروس قد أدى إلى نفور السعودية، فإن محاولاته لقمع إيران قوبلت بمقاومة كبيرة من طهران. وفي التحليل النهائي، دفع بايدن الرياض وطهران حرفياً للبحث عن قوى موازنة من شأنها أن تساعدهما على صد موقفه القمعي المتسلط.
يشكل استبعاد الولايات المتحدة المهين من مركز الصدارة لسياسات غرب آسيا “لحظة السويس” للقوة العظمى، على غرار الأزمة التي مرت بها المملكة المتحدة في عام 1956، والتي أجبرت البريطانيين على الشعور بأن مشروعهم الإمبراطوري قد وصل إلى طريق مسدود، وأن الطريقة القديمة لفعل الأشياء، جعل الدول الأضعف تتماشى مع الالتزامات الظاهرية للقيادة العالمية ،لم تعد تعمل وستؤدي فقط إلى حسابات كارثية.
الجزء المذهل هنا هو قوة العقل المطلقة والموارد الفكرية، و”القوة الناعمة” التي استخدمتها الصين للتغلب على الولايات المتحدة، فالولايات المتحدة التي لديها ما لا يقل عن 30 قاعدة عسكرية في غرب آسيا، فقدت دفة القيادة. والأمر الملفت للاهتمام إصدار السعودية وإيران والصين اتفاقهما التاريخي في نفس اليوم الذي تم فيه انتخاب شي جين بينغ لولاية ثالثة كرئيس للصين.
إن الصين الجديدة في ظل قيادة شي جين بينغ تتبنى موقفاً يدافع عن مصالح الآخرين و لا تدعي أمجادها لنفسها. كما أنه لا توجد علامة على “متلازمة المملكة الوسطى” التي حذر منها المروجون الأمريكيون. على العكس من ذلك، قدمت الصين بالنسبة للجمهور العالمي- خاصةً دول مثل الهند أو فيتنام أو البرازيل أو جنوب إفريقيا- مثالاً مفيداً لكيفية عمل عالم متعدد الأقطاب ديمقراطياً في المستقبل، وكيف يمكن إرساء دبلوماسية القوى العظمى على السياسات التصالحية والتوافقية والتجارة والاعتماد المتبادل وتعزيز نتيجة “الفوز للجميع”.
ضمنياً في هذه الرسالة الضخمة الأخرى هي أن الصين كعامل توازن واستقرار عالمي، ولا يقتصر الأمر على منطقة آسيا والمحيط الهادئ وغرب آسيا فقط، إذ يشمل أيضاً إفريقيا وأمريكا اللاتينية، وفي الواقع العالم غير الغربي بأكمله الذي يشكل الغالبية العظمى من المجتمع العالمي المعروف باسم الجنوب العالمي.
ما جلبه الوباء، وأزمة أوكرانيا إلى السطح هو الواقع الجيوسياسي الكامن الذي تراكم على مدى عقود من أن الجنوب العالمي يرفض سياسات المذهب التجاري الجديد التي اتبعها الغرب بزي “الأممية الليبرالية”. في غضون ذلك، هناك إعادة ترتيب للقوى على المسرح العالمي مع الصين وروسيا من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى. وهناك رسالة كبيرة عشية الإعلان التاريخي في بكين وراء هبوط وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود فجأة في موسكو في “زيارة عمل”، وأجرى لقاء مع الخارج الوزير سيرغي لافروف الذي كان مسروراً للغاية.
بالطبع هناك دور تلعبه موسكو من خلال التنسيق مع بكين لبناء جسور بين الرياض وطهران، كما أن روسيا والصين ينسقان بنشاط تحركات سياستهما الخارجية، ومن المثير للاهتمام أنه في 6 آذار، أجرى الرئيس بوتين محادثة هاتفية مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.
يظهر هذا الاتفاق أن المزيد من المؤامرات الشيطانية التي تم وضعها في واشنطن، وتل أبيب لإنشاء تحالف مناهض لإيران في غرب آسيا لن تنجح أو تمرر. كما أنه ليس من الممكن أن تكون السعودية طرفاً في أي هجمات أمريكية- إسرائيلية على إيران، الأمر الذي يعزل “إسرائيل” بشدة في المنطقة، ويجعل الولايات المتحدة بلا أسنان. من الناحية الموضوعية، فإن ذلك يبعثر الجهود المحمومة التي تبذلها إدارة بايدن مؤخراً لإقناع الرياض بالانضمام إلى اتفاقات “أبراهام”.
كما يمكن القول إلى حد ما، ووفقاً لبعض الخبراء والمحللين، إلى أن الاتفاق السعودي الإيراني يشكل نموذجاً إيجابياً لقضايا النقاط الساخنة الإقليمية الأخرى، مثل تخفيف وتسوية الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ويمكن للصين في المستقبل أن تلعب دوراً مهماً في بناء جسر للدول لحل القضايا الشائكة التي طال أمدها في الشرق الأوسط تماماً كما فعلت هذه المرة. وبالفعل، جاء في البيان المشترك الصادر في بكين أن الدول الثلاث، السعودية وإيران والصين أعربوا عن حرصهم على بذل كل الجهود من أجل تعزيز الأمن والسلم الإقليمي والدولي.
وفي ذات السياق سيكون للتقارب السعودي الإيراني بالتأكيد تداعيات إيجابية على الجهود الرامية إلى تسوية تفاوضية في اليمن وسورية، وكذلك على الوضع السياسي في لبنان. و كان البيان المشترك قد أكد أن السعودية وإيران تعتزمان إحياء الاتفاقية العامة لعام 1998 للتعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والتكنولوجيا والعلوم والثقافة والرياضة والشباب.
يمكن القول بشكل عام، لقد انهارت استراتيجية الضغط الأقصى لإدارة بايدن تجاه إيران وأصبحت عقوبات الغرب ضد إيران غير فعالة، كما تقلصت خيارات السياسة الأمريكية بشأن إيران.
يكمن الحد الأقصى للعقوبات الأمريكية في القيود المفروضة على تجارة النفط الإيرانية والوصول إلى البنوك الغربية، ومن المتصور أن ردة الفعل على وشك أن تبدأ مع بدء روسيا وإيران والسعودية – أكبر ثلاث دول منتجة للنفط و الغاز – في تسريع بحثها عن آليات دفع تتجاوز الدولار الأمريكي،حيث تناقش الصين بالفعل مثل هذا الترتيب مع السعودية وإيران. كما تحاول التعاملات التجارية والاقتصادية بين الصين وروسيا تجنب الدولار الأمريكي في مدفوعاتها.
من المفهوم جيداً أن أي تآكل كبير في مكانة الدولار باعتباره “عملة عالمية” لن يؤدي فقط إلى انهيار الاقتصاد الأمريكي، ولكنه سيشل أيضاً قدرة الولايات المتحدة على شن “حروب أبدية” في الخارج وفرض هيمنتها العالمية.
خلاصة القول هي أن المصالحة بين السعودية وإيران هي أيضاً مقدمة لتأسيسهم كأعضاء في “البريكس” في المستقبل القريب، ومن المؤكد أن هناك تفاهماً روسياً صينياً بشأن هذا الموضوع بالفعل، حيث إن عضوية “البريكس” للسعودية وإيران ستعيد بشكل جذري ديناميكية القوة في النظام الدولي.