الذّاكرة الحفظيّة عند الأدباء.. ضرورة أم شرط حاسم في تميّزهم؟
نجوى صليبه
يقول الكاتب والشّاعر والنّاقد الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، المولود في عام 1899 والمتوفى في عام 1986: “الذّاكرة ليست مجموعاً، إنّها فوضى بإمكانات لا نهائية”، ويحكي في إحدى قصصه التي حملت عنوان: “قصّة شاب هندي” حياة شاب يبلغ من العمر 19 عاماً، وكيف صار فجأة يتمتّع بذاكرة دقيقة وقوية كفيلة بجعله قادراً على حفظ أيّ نصّ يقرأه أوّل مرّة، وذلك إثر حادثة سقوطه من على ظهر فرسه، لكنّه مقابل ذلك يصبح عاجزاً عن جعلها ذاكرةً فعّالة، فيصفها بالقول: “ذاكرتي شبيهة بنفايات مكدّسة”، في إشارة إلى أهمية أن تكون الذّاكرة نشيطة وفاعلة ومفيدة لصاحبها، فكيف إذا كان هذا الصّاحب أديباً له مكانته ودوره الاجتماعي والثّقافي الذي يتطلّب منه ذاكرة حاضرةً في أي وقت للاقتباس والاستشهاد وإعطاء الأمثلة والشّرح والتّعريف.. الخ.
ولن نخوض في تكوين الذّاكرة وأنواعها وظهورها واختبائها إلى حين الضّرورة، لكن سنتحدّث عمّا إذا كانت الذّاكرة الحفظية -إن صحّ التّعبير- ضروريّة في حياة الأديب والمثقّف عموماً، أمّا خصوصاً، فمن المعروف أنّ تاريخاً كاملاً للشّعر نقلته ذاكرة الشّعراء في العصر الجاهلي والعصور التي تلته، ولاسيّما من أُطلق عليه مصطلح “الشّاعر الرّاوية” الذي كان يتمتّع بحظوة كبيرة نظراً للدّور الكبير والمهمّ الذي يلعبه في توثيق أدب قبيلته ونقله إلى القبائل الأخرى. نتذكّر هنا روايات كثيرة تتحدّث حول الاستئذان في قول الشّعر وشروط قبوله والتي تتمثّل في حفظ ألف مقطع للعرب بين أرجوزة ومقطّعة وقصيدة ومن ثمّ نسيانها وحفظ غيرها.
وهذا ما يذكره أيضاً الشّاعر صقر عليشي إذ يقول: لقد عرف تاريخنا شعراء يحفظون القصيدة من السّماع الأوّل، لكنّهم لم يكونوا من الشّعراء المبرزين، فقد كان يطلب من الشّاعر المبتدئ حفظ الكثير من الشّعر، ومن ثم يطالبونه بنسيانه.
أمّا اليوم، فنجد أدباء في رصيدهم العديد من الكتب والمؤلّفات والدّواوين لكنّهم يفتقرون إلى الذّاكرة الحيّة وهذا ما يحول دون حضور أديب أو إعلامي مميّز، فهل الذّاكرة الحفظية ضرورية أم تكميلية في حياة الأديب وفي تميّزه؟ يجيب عليشي: ليست الذّاكرة من يعطي الشّاعر تميّزه، بل للخيال القول الفصل في ذلك، لكن يجب أن تكون ذاكرة الشّاعر جيّدة ولا يشترط فيها المقدرة العالية على الحفظ، مبيّناً: العملية الإبداعية معقّدة كثيراً ويشارك فيها أكثر من جانب، لكن يمكن القول إنّ الخيال ولونه وجموحه هو الأساس في العملية الشّعرية، فالذّاكرة أشبه ما تكون بخزّان للمعلومات ودورها مهمّ، لكنّه ليس حاسماً.
“سؤال يتّسع لإجابات كثيرة” يقول الشّاعر فرحان الخطيب ويضيف: من غير المعقول أن يتساوى الأدباء في القدرة على الحفظ والتّركيز، بل ومن حيث الجنس الأدبي الذي يشتغل عليه ويدخل في عمق اهتمامه، فالشّاعر ربّما يكون أكثر قدرة على امتلاكه ذاكرة حفظية من القاصّ أو الرّوائي لكثرة ما ينشد قصيدته ويعيدها أمام النّاس، ولكن هل نعفي الأدباء الباقين من أن يكون لديهم هذه الذّاكرة؟.. بطبيعة الأمر لا، لأنّ الأديب مطلوب منه في لحظة، وغير محسوبة سابقاً ربّما، أن يكون متراساً لسهام أسئلة ما – كما أنت الآن – فهل نطلب من السّائل إمهالنا لنحضر كتباً ومجلّدات ونبحث فيها عن الإجابات، ولاسيّما إذا علمنا أنّ العرب نقلت إلينا أخبارها ومعارفها وتاريخها مشافهةً؟.
ولا يختلفُ الأمر كثيراً بالنّسبة للعاملين في مجال الفنّ المسرحي، وبحسب المسرحي جوان جان فإنّ الذّاكرة جزء أساسي من أي فعّالية إبداعية، وفيها تختمر الأفكار وتتعمّق الرّؤى ويعود الماضي بتفصيلاته ليطلّ برأسه من جديد، لكن هذه المرّة من خلال عمل إبداعي فنّي أو أدبي، ويضيف: العاملون في مجال الفن المسرحي يتعلّمون في مراحل التّعليم الأولى ما يُسمّى بالذّاكرة الانفعالية، إذ يخزّن الممثّل في ذاكرته العديد من تفاصيل الأشخاص الذين يعرفهم حتّى أولئك العابرين في حياته بهدف استعادة تلك التّفاصيل عندما يسند إليه القيام بأداء شخصية ما قد تتقاطع مع ما اختزنه في ذاكرته في يوم ما من تفاصيل.
ويوضّح جان: لا شكّ في أنّ الكاتب المسرحي يقوم بما يقوم فيه الممثّل أيضاً، وإن كان بطرق مختلفة لها علاقة برسم ملامح الشّخصيات على الورق قبل أن ينقلها المخرج والممثّل إلى خشبة المسرح، وبالتّأكيد فإنّ ذاكرة الكاتب ينبغي أن تكون ذات نظرة أكثر شمولية من ذاكرة الممثّل أو المخرج، فمدى اهتمام ذاكرة الكاتب تشمل طيفاً واسعاً من الشّخصيات والأحداث والمواقف التي يتمّ استدعاؤها في الوقت المناسب بهدف خدمة فكرة ما في وقت قد تفصله مسافة زمنية بعيدة عن تاريخ حفظ الحادثة أو الموقف أو الشّخصية في الذّاكرة.
لكن ماذا عن ضرورة وجود هذه الذّاكرة في النّدوات التّنظيرية واللقاءات الأدبية أو الإعلامية التي تتطلّب من الأديب سرعة في استحضار المعلومات والإجابات، يبيّن جان: بالتّأكيد على ذاكرة الباحث والنّاقد المسرحي استحضار أكبر كمّ من المعلومات المتعلّقة برموز المسرح وروّاده أثناء النّدوات واللقاءات الإعلامية، ولاسيّما تلك التي تتحدّث عن تاريخ المسرح، وكلّما أبحر الباحث أو النّاقد في سرد المعلومات كانت مداخلته أكثر إحكاماً وقدرة على نيل الإعجاب.
الذّاكرة الحفظية سواء أكانت لاستحضار الماضي الخاص أو العام أمر مهمّ بالنّسبة إلى الأديب ذاته وإلى حركة التّوثيق الأدبي والثّقافي والفنّي، وتحدّث عنها الكثير من الأدباء والفلاسفة أيضاً وبعضهم شعر بالنّدم لأنّه لم يستطع تذكّر بعض المعلومات أو الأفكار أو التّفاصيل المتعلّقة بحدث ما، نستشهد بقول الكاتبة الإنكليزية أجاتا كريستي، المولودة في عام 1890 والمتوفاة في عام 1976: إنّ الحياة مثل فيلم سينمائي، وعبارة عن لقطات، وتذكر بعض المراجع أنّ الفيلسوف الفرنسي “جون جاك روسو”، المولود في عام 1712 والمتوفى في عام 1778، قد ندم على نسيانه تفاصيل أسفاره لأنّه لم يدوّنها في يومياته.
إذاً لابدّ من تمرين الذّاكرة وشحذها بشكل دائم ومستمر، يقول الشّاعر فرحان الخطيب: الآن وعلى الرّغم من أنّ هذا الولد النّبيه “الغوغول” سّريع الاستجابة، لكنّه من الجميل أن نحتفظ نحن الأدباء بمساحة حفظية معقولة نخزّنها في مستودع الذّاكرة لنستعملها عند الحاجة إليها من دون أن نضيّع أمكنتها من على الرّفوف التي يخشى عليها من التّآكل مع مرور الزّمن، ولكن لابدّ من التّمرين الدّائم على الاستعمال، وهذا يتبدّى في مواصلة البحث والتّدقيق والعطاء.