الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

“رسالة الإمام”.. تجسيد للقيم الروحية والفكرية

سلوى عباس

أصبحت الدراما التاريخية عابرة للثقافات، وتحمل رسائل للشعوب وتسهم في بناء الصورة الذهنية لشخصيات في التاريخ الإسلامي يمكن أن تشكل قصص حياتهم أساسا لبناء صناعة دراما تاريخية تعيد الاعتبار لقيم أخذت بالتلاشي في مجتمع استهلاكي متغول جشع، وتؤكد على الاعتزاز بالذات والهوية، كمسلسل “رسالة الإمام” الذي يعرض في الموسم الرمضاني الحالي على القنوات المصرية، ويتناول سيرة محمد بن إدريس الشافعي بين أواخر القرن الثاني وبدايات القرن الثالث الهجري، ويضيء على فترة إقامته في مصر طلباً للعلم، وهو من بطولة خالد النبوي ومجموعة من الممثلين العرب وتأليف محمد هشام أبو عبية بمشاركة عدد من الكتّاب السوريين والمصريين وإخراج الليث حجو، فرغم الاهتمام بالنوع الدرامي التاريخي، وسيرة ومسيرة الإمام الشافعي، وأجمل ما في هذا العمل الإضاءة على سمو خلق الإمام وفكره وأدبه، إضافة إلى الرسائل الكثيرة التي يتضمنها العمل من أقوال الشافعي ومآثره منها حينما قال: “يا صديقي تجمعنا مئات المسائل فلا تفرقنا مسألة”، أي أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.

وفي رسالة أخرى يقول: “لا تحاول الانتصار في كل الخلافات فأحيانا كسب القلوب أولى من كسب المواقف”، ومن بين الرسائل المهمة أيضاً حكمة مفادها “لا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها فربما تحتاجها للعودة يوما ما”، وهذه الحكمة تحمل الكثير من الدلالات، منها لا تخسر الأشخاص الذين انتهت علاقتك بهم، فربما تحتاجهم في وقت ما.

ومن أجمل حكمه ورسائله التي وردت في سياق أحداث العمل “اكره الخطأ لكن لا تكره المخطئ.. انتقد القول، لكن احترم القائل.. اكره بكل قلبك المعصية، لكن سامح وارحم العاصي، فمهمتنا هي القضاء على المرض لا على المرضى”، وكذلك “لا تحاول أن تكون مثالياً في كل شيء، لكن إذا جاءك المهموم انصت، وإذا جاءك المعتذر اصفح، واذا قصدك المحتاج انفع، وحتى لو حصدت شوكاً يوماً ما كن للورد زارعً”، وغيرها الكثير من العِبَر والرسائل التي يضيق المجال عن ذكرها في هذه العجالة.

وكما في كل موسم رمضاني تتباين الآراء في الأعمال المقدمة حسب مزاج المشاهدين وميولهم الدرامية وقد تعرض مسلسل “رسالة الإمام” للنقد الذي أورد انتقادات غير جوهرية تراوحت ما بين اللهجة التي يتحدث فيها بطل العمل خالد النبوي وبعض الشكليات الأخرى التي لا تؤثر على سياق الأحداث، لكن العثرة الأبرز التي واجهت العمل أتت من اتهام شاعر سوري، يدعى حذيفة العرجي، مؤلف المسلسل بالسطو على بيتين من الشعر نسبهما للإمام الشافعي، بينما دونهما الشاعر في تغريدة له منذ عام 2014، لكن في التقصي عن هذين البيتين أشارت المعلومات والمواقع كلها على أنها للشافعي مضاف إليهما بيتين آخرين هما:

“وتضيقُ دُنيانا فنحسَبُ أنَّنا / سنموتُ يأساً أو نَموت نَحيبا

وإذا بلُطفِ اللهِ يَهطُلُ فجأةً / يُربي منَ اليَبَسِ الفُتاتِ قلوبا”

قل للذي ملأ التشاؤم قلبه / ومضى ضيق حولنا الآفاقا

سر السعادة حسن ظنك بالذي / خلق الحياة وقسّم الأرزاق

هذه الأبيات تدل بما لايحتمل الشك أنها للإمام الشافعي، وما أثير من شكوك حولها عار عن الصحة، خاصة وأن العمل حسب تصريحات مؤلفه أنه يستند إلى مراجعة وتدقيق تاريخي وعلمي للمحتوى الذي يقدم من مجمع البحوث الإسلامية بمؤسسة الأزهر الشريف.

بعيداً عن كل الإشكاليات التي تعرّض لها العمل لا يزال حتى الآن من المسلسلات التاريخية الجميلة التي تشهد المشاهد، حيث خرج عن نمطية الاعمال التاريخية التي اعتدنا عليها في تناول السيرة الذاتية لشخصية تاريخية، أو من ناحية التركيز على الرحلة الروحية والفكرية لرجل أثر في كثير من الأمم والشعوب وهنا تكمن جمالية العمل الفني، إضافة للإتقان المبهر للغة العربية الفصحى، والتمثيل الناجح واللافت والإخراج الواعي والمتقن، لنكون أمام عمل فني متكامل نتمنى أن يستمر بهذا المستوى الناجح حتى النهاية.