هواجس الحرب الباردة تعيق أوروبا مرة أخرى
البعث الأسبوعية- عناية ناصر
اتبعت عدد من الدول الأوروبية في الآونة الأخيرة الولايات المتحدة في دعم سياسة الحرب الباردة تجاه روسيا والصين، مما أدى إلى خلق مشاكل متزايدة في أوروبا، وجلب حرب كبرى إلى القارة، وخلق صعوبات اقتصادية خطيرة، وزيادة التدهور في مستويات المعيشة. وفي هذا السياق، حظيت مسألة تأسيس أوروبا لسياسة خارجية مستقلة بالدعم، كوسيلة لضمان الأمن والازدهار.
لقد أودت الحرب في أوكرانيا بحياة عشرات الآلاف في تعبير عن مدى شدة و قساوة للوضع ، كما وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن ما يقرب من 18 مليون شخص يحتاجون إلى مساعدات إنسانية وأن الملايين قد نزحوا .
كان من الممكن تجنب هذه المأساة، حيث كان السبب الأساسي للحرب هو سياسة الولايات المتحدة لتوسيع الناتو حتى حدود روسيا، بما في ذلك اقتراح انضمام أوكرانيا إلى الناتو عندما أوضحت روسيا مراراً وتكراراً أن هذا يمثل خطًاً أحمر وتهديداً لمصالحها الأمنية، إلا أن الولايات المتحدة استمرت في الضغط من أجل توسيع الناتو على الرغم من ذلك.
لقد أظهر ذلك النهج غياب سياسة خارجية أوروبية مستقلة في سياسة الحكومات الأوروبية الكبرى خلال العام الماضي، حيث دعمت هذه الحكومات السياسة الأمريكية في أوكرانيا.
كانت تكلفة هذه الحرب باهظة الثمن بشكل غير اعتيادي، حيث خصصت قوى الناتو عام 2022، مبالغاً ضخمة لأوكرانيا تقدر بحوالي 50 مليار دولار من الولايات المتحدة، و 52 مليار يورو من الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه، و 2.3 مليار جنيه إسترليني من بريطانيا. في عام 2023 ، كان هناك تصعيد وزيادة كبرى في المساعدات العسكرية المقدمة. و بعد ضغوط من الولايات المتحدة، وافقت ألمانيا على نشر دباباتها من طراز ليوبارد، بينما ترسل الحكومة البريطانية ذخائر اليورانيوم المنضب.
من الواضح أن العسكرة في أوروبا آخذة في الارتفاع، وتجلى ذلك من خلال زيادة الإنفاق العسكري في العام الماضي من قبل الحكومات الأوروبية الكبرى، وهو الأمر الذي دعت إليه الولايات المتحدة على مدى سنوات عديدة. وفي هذا الإطار تعهد المستشار الألماني أولاف شولتز في العام الماضي، بإنفاق 100 مليار يورو في الإنفاق العسكري، كما تعهد بإنفاق ألمانيا 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع في المستقبل. وفي سياق متصل يعمل الرئيس إيمانويل ماكرون على زيادة الإنفاق العسكري الفرنسي إلى حوالي 60 مليار يورو بحلول عام 2030، وهو ما يقرب من ضعف مخصصات عام 2017. كما أن بريطانيا، الحليف الأوروبي الأقرب تاريخياً للولايات المتحدة ، تنفق بالفعل 2.2٪ من الناتج المحلي الإجمالي في المجال العسكري، ما يعادل 48 مليار جنيه استرليتي. كما أنه لدى الولايات المتحدة مائة ألف جندي متمركزين في أوروبا والعديد من القواعد العسكرية، بما في ذلك 119 في ألمانيا .
لقد أثر ذلك سلباً على مصالح أوروبا، وبدون القيام بأي محاولات للتفاوض على السلام في أوكرانيا، بدلاً من التصعيد، سيموت الكثيرون ويتشردون. وفي الوقت نفسه، هناك تأثير لارتفاع أسعار الطاقة في جميع أنحاء أوروبا، نتيجة للعقوبات المفروضة على روسيا، إضافة إلى أن زيادة الإنفاق العسكري تؤدي إلى تحويل الموارد بعيداً عن معالجة أزمة تكلفة المعيشة،مما جعل أوروبا أكثر خطورة وفقراً.
لم تؤيد الولايات المتحدة مقترحات السلام الأخيرة في أوكرانيا، مثل تلك المقترحات المقدمة من الصين، مما يعني إطالة أمد الحرب، إلا أنه بمقدور الدول الأوروبية اتباع مساراً مختلفاً ولعب دوراً في دعم المفاوضات وذلك لإنهاء الصراع.
التعاون العالمي هو مفتاح الرخاء الاقتصادي
تواجه أوروبا من الناحية الاقتصادية أزمة موازية، حيث أن النمو الاقتصادي البطيء، والتضخم المرتفع، وسياسات التقشف الحكومية تضر بمستويات المعيشة، في حين أن سياسات بعض الحكومات الأوروبية تجاه روسيا والصين جعلت الوضع يزداد سوءاً.
لقد تضررت أوروبا بشكل خطير من المشاركة في العقوبات ضد روسيا، وقد أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار الطاقة، في حين استفادت الولايات المتحدة من بيع غاز مسال أعلى تكلفة إلى أوروبا لاستبدال الغاز الروسي الأرخص الذي يتم تسليمه عبر خطوط الأنابيب. وفي هذا الإطار قدم الصحفي سيمور هيرش قضية خطيرة مفادها أن الولايات المتحدة كانت مسؤولة أيضاً عن تفجير خط أنابيب “نورد ستريم” بين روسيا وألمانيا، لكن الحكومات الأوروبية فشلت في دعم الدعوة إلى إجراء تحقيق مستقل في هذا الهجوم على البنية التحتية للطاقة في أوروبا.
كما حثت الولايات المتحدة أوروبا على اتخاذ موقف أكثر مناهضة وعدائية تجاه الصين، و أدى هذا مؤخراً إلى تدهور علاقة أوروبا بالصين، حيث لم يتم التوقيع على الاتفاقية الشاملة للاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي، المتفق عليها من حيث المبدأ في كانون الأول 2020، على الرغم من الفرص الاقتصادية التي تقدمها لأوروبا. إضافة إلى ذلك طُلب أيضاً من الحكومات الأوروبية الانضمام إلى الهجمات الأمريكية على صناعة التكنولوجيا في الصين، حيث حظر بعضها مؤخراً خدمة الشبكة الاجتماعية “تيك توك” من هواتف العمل الحكومية مع ممارسة ضغوط من أجل حظر أوسع. وبناءً على هذا فإن تبعات العواقب الاقتصادية لهذا الاتجاه خطيرة على أوروبا، حيث أن الصين هي الشريك التجاري الأكبر للاتحاد الأوروبي والأسرع نمواً اقتصادياً رئيسياً، ووفقاً لتقديرات النمو الأخيرة لصندوق النقد الدولي لعام 2023 فإن الصين ستنمو بنسبة 5.2 في المائة، وهي أسرع بست مرات من منطقة اليورو البالغة 0.8 في المائة. وبالتالي، فإن المكاسب المحتملة لأوروبا لزيادة التعاون الاقتصادي المربح للجانبين مع الصين كبيرة.
العمل من أجل سياسة خارجية مستقلة
تميل سياسة الحرب الباردة الجديدة للولايات المتحدة إلى إحداث حالة من الفوضى في أوروبا. وفي ضوء ذلك، هناك دلائل الآن على أن بعض السياسيين الأوروبيين الرئيسيين لا يرغبون في الاستمرار في هذا المسار، حيث أدلى الرئيس ماكرون بعد زيارته للصين في نيسان 2023 بتصريحات ذكر فيها أن أوروبا يجب ألا تكون “تابعاً ” للولايات المتحدة عندما يتعلق الأمر بتايوان، وهي قضية رئيسية، وعليها بدلاً من ذلك السعي وراء “الاستقلال الاستراتيجي”. وفي إطار متصل تحدث رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز في آذار 2023، نبرة مستقلة مماثلة، قائلاً: “لا تحتاج العلاقات بين أوروبا والصين إلى المواجهة فهناك مجال واسع للتعاون المربح للجانبين “.
على الصعيد العالمي، يعد السعي وراء سياسة خارجية مستقلة اتجاهاً متزايداً، وقد أدى هذا النهج إلى استدامة السلام في آسيا حيث تركز معظم الدول على التنمية الاقتصادية بدلاً من المواجهة، كما يحدث الاختراق الأخير الذي أعاد العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران، والذي أقيم بمساعدة الصين في المفاوضات، إمكانية التغلب على عدد من النزاعات في الشرق الأوسط. كما أدت إعادة انتخاب لولا الأخيرة في البرازيل إلى تقوية القوى السياسية لصالح الاستقلال والتنمية الإقليميين.
و بناء على ذلك، فإن الاتجاهات في أوروبا التي ترى أن السياسة الخارجية المستقلة مهمة لمستقبل المنطقة تتماشى مع هذا التطور العالمي الشامل.