هل تعود دراما البيئة إلى سابق عهدها؟؟
نجوى صليبه
يعدّ مسلسل “أيام شامية”، تأليف أكرم شريم وإخراج بسّام الملّا وإنتاج التّلفزيون العربي السّوري، أحد أبرز مسلسلات دراما البيئة، بل لعلّه البذرة الأولى لها، وكان العمل الذي لعب بطولته عبّاس النّوري وخالد تاجا ورفيق السّبيعي وسامية الجزائري ووفاء موصللي وغيرهم يحظى بشعبية مميزة وبنسبة مشاهدة عالية، إذ كان حديث الصّغير والكبير آنذاك، ومنه اقتبست أعمال أخرى كثيرة تتناول حياة وعادات مدينة دمشق في أواخر القرن الثّامن عشر، مع اختلاف القصص وأسلوب طرحها، فالبعض جعل من القصّة الاجتماعية حدثاً أساساً ومقارعة المحتل عنصراً ثانوياً، بينما اشتغل البعض على عكس ذلك، نذكر على سبيل المثال “الخوالي” و”ليالي الصّالحية” و”باب الحارة” و”حارة القبّة” والـ”كندوش” ومؤخّراً “مربى العزّ” و”العربجي”.
ولم تكن البيئة الشّامية وحدها المسيطرة على الشّاشة الصّغيرة، بل كان هناك مسلسلات كثيرة في بيئات أخرى، فأجيال كثيرة تربّت على المسلسل البدوي الذي كان يعرض ظهر كلّ يوم جمعة، وأعد نفسي من المحظوظين لكوني كنت أنتظر الحلقة القادمة من هذا المسلسل، كغيري، وكما يقال “من الجمعة إلى الجمعة” مع تذكّر دقيق لأحداث الحلقة السّابقة بكلّ تفاصيلها، نذكر مثلاً “غدر الزّمان أو البريئة 1993” ﺗﺄﻟﻴﻒ نصر الدّين أحمد وﺇﺧﺮاﺝ سالم الكردي، ويروي قصّة فتاتها يتهمها ابن عمّها بشرفها وبأنّها على علاقة بالدّخيل، وغسلاً لعارها يرميها شقيقها في حفرة عميقة وسط الصّحراء بعيداً عن “ديرتهم”، وبعد مضي أيّام عدّة يعثر عليها الدّخيل ويقصدان قبيلةً أخرى ويعيشان فيها على أنّهما شقيقان، وتمضي الأيام إلى أن يقتل ابن عم الفتاة ويتّهم شقيقها بقتله وتظهر الحقيقة والحقّ ويعرف أهلها أنّها ما تزال على قيد الحياة.
ونذكر أيضاً المسلسل البدوي “جواهر 1994” للمخرج نجدت أنزور، الذي شغل الجمهور آنذاك بقصّة حبّ “زوينة وحمد”، و”عدالة الصّحراء” الذي عرض في عام 1996، سيناريو محمد البرماوي وقصّة فازع الوزان وإخراج محمد الشليان، ويتناول العمل موضوع القضاء والعدالة في حياة البادية، و”فنجان الدّم2009 ” للمخرج الليث حجو الذي قدّم طرحاً مختلفاً عن البادية، وتعود قصّة العمل إلى بداية القرن التّاسع عشر، إذ يفرّق الثّأر بين قبيلتي “المعيوف” وقبيلة “النّوري الجزاع” فترةً من الزّمن، ويجمعهما لاحقاً العدو المشترك في خندقٍ واحدٍ، فيحاربان الاحتلال العثماني ويكبّدانه خسائر فادحة، وذلك بالتّوازي مع وجود قصّة حبّ تجمع بين فارس قبيلة “النوري الجزاع” وحسناء قبيلة “المعيوف”، وهذه أعمال أيضاً كنّا نفهمها ونقلّدها أيضاً.
ويبقى لمسلسلات البيئة الحلبية وقعها الخاصّ على الجمهور السّوري، والأمثلة كثيرة ونبدأ بـ”خان الحرير1996” تأليف نهاد سيريس وإخراج هيثم حقّي، وتدور أحداثه خلال فترة الخمسينيات في مدينة حلب، عندما كان يطمح الشّعب إلى تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا، هذا في المسار السّياسي للعمل، أمّا في مساره الاجتماعي فيتحدّث كان يروي وقوع أرملة في حبّ مهندس شابّ عائد إلى وطنه لينشئ مشروعاً جديداً ﻹنتاج اﻷقمشة، إضافةً إلى قصّة حبّ أخرى تولد بين المدينة والبادية كان بطلتها الفنّانة أمل عرفة التي أضفت على العمل نكهةً مميزةً بالأغنيات التي كانت تقدّمها وما نزال نحفظها حتّى اليوم.
“سيرة آل الجلالي” دراما بيئة أيضاً للمخرج هيثم حقّي، عُرضه في عام 2000، ويلقي الضّوء على حياة عائلة آل الجلالي واحدة من أقدم عائلات مدينة حلب، ويروي هذا العمل قصّة رجل جمع ثروةً طائلةً بطرق مشروعة وأخرى غير مشروعة كحرمانه أخوته من الميراث من دون إحساس بالذّنب تجاههم، إلى أن يضعفه المرض ولا يجد من يسانده سوى شقيقه الذي حرمه من ماله، وطبعاً لن ننسى “باب المقام” تأليف محمد أبو معتوق وإخراج فهد ميري الذي أُنتج في عام 2008، وتدور أحداثه في مدينة حلب أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، ويعالج العمل قضية الخلاف بين الفكر المتنوّر والفكر المتعصّب بين شقيقين وذلك على خلفية قصّة حبّ بريئة تجمع ابنة صاحب الفكر المتنوّر وشاب يتيم الأب سلبه عمّه حقوقه من الميراث، وحفاظاً على حياتهما التي هدرها شقيقه يزوجهما الأب الحنون ويجعلهما يعيشان في مقام يقع على أطراف الحارة، ويتظاهر أمام أخيه بأنّه قتل ابنته، إلى أن يأتي اليوم الذي يأمر فيه الأخ المتعصّب بإغلاق المقام بالإسمنت، وللأسف لا أحد ينتبه إلى ذلك إلّا بعد مضي وقت كان كفيلاً بوفاة الزوجين العاشقين الطّاهرين.
وكان للبيئة السّاحلية نصيبها على الشّاشة الصّغيرة، لكن سيكون مثالنا هنا في الكوميديا مسلسل “ضيعة ضايعة ” الذي صُوّرت حلقاته في المناطق الجبلية لقرية السّمرا الواقعة بمنطقة كسب في محافظة اللاذقية، ويروي العمل حياة قرية غير واقعية يعيش سكّانها بين أحضان الطّبيعة، متخلّصين من عبودية التّقنيات الجديدة في عصر سيطرت فيه الرّقميات على معظم جوانب حياتنا، والمميز في هذا العمل هو اللهجة الجميلة التي أصبح الكبير، قبل الصّغير، يقلّدها ويتحدّث فيها، ويتذكّر شرح المفردات التي كانت ترافق بعض المشاهد، وفي الحقيقة هذه لم تكن لشرح مفردات غريبة نوعاً ما فقط بل كانت أيضاً أسلوباً مميزاً جديداً في الكوميديا، إذ أنّه ليس من الصّعب على المشاهد السّوري التّعرّف على معاني مفردات مدينة أخرى أو قرية أخرى إلّا ما ندر، وهذه أحياناً يفهمها من سياق الحديث، وإلّا لما استمرّ هذا العمل بجماهيريته الكبيرة بجزأيه الأوّل الذي عُرض في عام 2008والثّاني الذي عُرض في 2010.
وعلى مبدأ “ضيعة ضايعة”، كان مسلسل “الخربة”، الذي عُرض أوّل مرّة في عام 2011، وهو تأليف ممدوح حمادة وإخراج الليث حجّو، وصوّرت حلقاته في إحدى قرى محافظة السّويداء، أيضاً يصوّر حياة الرّيف بعيداً عن التّكنولوجيا بفكاهة لطيفة، ولا سيّما فيما يخصّ خلاف العائلتين الكبيرتين “بو قعقور” و”بو مالحة” ومن بعد هذين العملين كان العمل الكوميدي “حدود شقيقة” الذي عُرض في رمضان 2013، وهو من تأليف حازم سليمان وإخراج أسامة الحمدو، وسلّط الضّوء على الحياة الاجتماعية والسّياسية التي فرضها الواقع بين قريتي “أمّ النّور” و”أمّ النّار”.
أعمال بيئة كثيرة تراجيدية وكوميدية، عُرضت على الشّاشة الصّغيرة وشاهدنا بحبّ، وتفاعلنا معها فرحاً وحزناً، وما قلنا يوماً إنّنا لا نفهم لهجة من لهجات قرانا ومدننا السّورية على الرّغم من أنّ تلك الأعمال القديمة والرّاسخة أُنتجت وعُرضت في وقت لم يكن هناك وسائل تواصل اجتماعية تساعد في السّؤال عن معنى كلمة أو مصطلح، أو في تجييش “سكّان” هذه الوسائل ضد عمل بسبب اللهجة التي يقدّمها بحجّة عدم فهمها وصعوبتها، ومن ثمّ تخصيص حلقات كاملة من برامج الـ”ترند” واستطلاع الآراء وسؤال النّاس عمّا إذا وجدوها غريبةً أو صعبة الفهم، نتحدّث هنا عن “الزّند” للكاتب عمر أبو سعدة والمخرج سامر برقاوي، والذي عُرض مؤخّراً خلال الموسم الدّرامي الرّمضاني، ويتحدّث عن حياة بعض القرى بريف محافظة حماة في ظلّ الاحتلال العثماني، ليقدّم بذلك بيئة جديدة مختلفةً عن أعمال البيئة التي ركّزت خلال العشر أعوام الأخيرة على بيئة دون غيرها، ويعيد لهذه الدّراما شيئاً من تنوّعها الجميل والمميز كتنوّع لهجاتنا المحلية وتميّزها، والذي على ما يبدو أنّه يزعج الكثيرين ممّن امتهنوا استغلال وسائل التّواصل الاجتماعي بهدف تهميش لغتنا العربية وسرقة تراثنا وإضعاف لهجاتنا، وتالياً سلبنا هويتنا العربية وهذا كان أحد أهداف الحرب التي عشناها في السّنوات الماضية ونعيش تبعاتها وانعكاساتها اليوم، لذا لابدّ من استدراك الأخطاء والتّقصير ومواجهة المخاطر من جديد ولكن بعدّتنا الكاملة وعلى جميع المستويات والمجالات الثّقافية والإعلامية والاجتماعية والتّربوية والفنّية ومن ضمنها بالتّأكيد الدّراما التّلفزيونية والإذاعية.