ثقافةصحيفة البعث

قصور أهالي حلب بنيت من أجل النساء اللواتي يعشن خلف الأبواب المغلقة

فيصل خرتش

هناك عائلات في حلب وبيروت والقدس تكنَى “بالمصوَر” ولكن ليست بينها صلات قربى، فقد اشتهر يوسف المصوَر الحلبي برسم الصور في الكتب وهياكل الكنائس والجدران، وقد خلفه في هذه المهنة حفيده حنانيا، ورسم الاثنان لوحة “الدينونة الأخيرة” في كاتدرائية الأربعين شهيداً، كذلك رسم صورة العذراء مريم، الواقعة في الباحة ذاتها، وإلى جانب نجاحات يوسف في الرسم، فقد كان مترجماً وكاتباً.

تنسبُ صناعة القيشاني إلى موقع “قيشان” في فارس قرب مدينة أصفهان، وكانت هذه المهنة قد ظهرت للمرة الأولى عند البابليين والكنعانيين الذين زينوا قصورهم بنماذج باهرة منها، وانتقلت بعد ذلك إلى الرقة وحلب وحمص ودمشق، وقد ذكر الشيخ عبد الغني النابلسي أنَ الصدر الأعظم أرسل رسولاً إلى دمشق يطلب عمالاً لصناعة القيشاني لبناء مصنع في القسطنطينية، وهناك نماذج رائعة في جوامع وقصور وأبنية في حلب ودمشق والأندلس، وبعضها موجود في متحف اللوفر في باريس.

تمتاز مدينة حلب بجوامعها وكنائسها وقصورها العديدة، وكان فيها مصنع في القرن الخامس عشر، أنتج نماذج من القيشاني الجميل ولا تزال بعض القطع موجودة هنا وهناك، كما تمَ اكتشاف معمل في دمشق.

فرع فني آخر هو حفر الخشب وزخرفته اشتهر في حلب، ومواد هذه الصناعة هي الأخشاب الجيدة والثمينة والأصبغة النباتية والذهب، كان خشب شجر الجوز الجيد يجلب من القرى القريبة من مدينة أنطاكية وغابات الأمانوس وجبل أريحا وجبل الأربعين، والأصبغة الثمينة والثابتة كانت معروفة جيداً من قبل الرسامين والناسخين في حلب، وكانوا يستخدمون الذهب واللازورد بسخاء كبير، وهناك رسومات ملونة في الدور الخاصة التي تبهر الأثريين الأجانب، وهذه الرسومات البديعة والمرسومة على جدران خشبية ومحاريب وهياكل مزخرفة ومحفورة نقل بعضها في الماضي إلى أوروبا بأسعار خيالية، ولأخذ فكرة عن هذا الفن يكفي أن نقوم بزيارة قصر صولا لنجد الباحة والبركة الجميلتين وجدرانهما المبنية من الحجر الأبيض والأحمر وقاعة واسعة وأبوابه ونوافذه من الخشب الجيد، وهو يحتوي على أفضل أنواع القيشاني، وقد بنيت هذه القصور من أجل نساء حلب اللواتي كنَ يعشن خلف الأبواب المغلقة، ولإضفاء الجمال والسرور على حياة الحريم عمل الحلبي كلّ جهده لإضفاء البهجة على مسكنه، ويصفEusebe de Salle أثناء بقائه في حلب 1837 ـ 1839 غنى ورفاهية وراحة الدور الكبيرة فيها وسهولة الحياة بكلَ مباهجها وكرمها والأحاديث الشيقة والموسيقا والرقص وجميع أنواع الحلويات والمعجنات والأزهار ونوافير الماء والثياب البديعة والعطور والأصبغة الثمينة، وهناك بيتان بديعان في حي الجديدة، الأوَل هو دار أجقباش، ويمتاز بالرسومات الكثيفة والحفر على الخشب، وباحته الجميلة المزينة بجدران خشبية مصوَرة، أمَا الباحة الواسعة بإيوانها الجميل العالي فهي تحفة للناظرين، والبركة المبنية من أحجار المرمر، التي تقع تحتها حمامات واسعة وقبو بثلاث طبقات وبيوت مونة واسعة. والبيت الثاني هو دار غزالة البديع وله باحة كبيرة ومشمسة وبركتا ماء وقاعة مقبَبة مزدانة برسومات ملونة من الجهة الداخلية وإطارات حجرية ناعمة منقوشة حول النوافذ وحمَام مغطى بقبة مسنودة على أعمدة وقاعة بديعة مذهبة بالخشب رائعة ومزينة بصور ملونة، ومن الدور الجميلة نجد دار صادر المزينة بالجدران الخشبية المزخرفة، كذلك عندنا دار يوسف كرللي التي تتميَز بالقاعة المقنطرة الباهرة والمزهريات ومختلف أنواع الفواكه المنقورة على باب الغرف، وبيت وكيل الذي يقع في حارة السيسي دار رائعة وقد بيعت إحدى جدرانها الخشبية إلى متحف برلين منذ زمن، والأحياء القريبة من القلعة غنية أيضاً بالدور الباهرة وخاصة دار قول آغاسي التي تحتوي على جدران خشبية مذهبة وناعمة التخاريم وخزائن مغطاة بالمرايا. وتقع دار جنبلاط في باب النصر، ويمكن اعتبارها القصر الأوسع والأجمل بين جميع بيوت حلب، وقد شيّدت في نهاية القرن السادس عشر، وهي تحتوي على باحة واسعة وبركة كبيرة، وكانت جدران الإيوانين الكبيرين مزدانة بالسيراميك المحلي الجيد وفوقها كتابات بالخط الكوفي، وهي شاهد بأنها كانت قصراً يضجّ بالحياة في يوم من الأيام.

يقع في هذا الحيّ قصر رجب باشا الذي كان حاكماً على حلب في منتصف القرن الثامن عشر، وإلى جانبه يقع بيت الكندي الذي تمتاز قاعته بزخارفها والتي تشبه بيت غزالة، وعند سبيل رجب باشا القريب من القصر سنجد أسدين منقورين على قوس القنطرة وإلى جانبهما وردتان، وعلى مسافة غير بعيدة من باب الفرج نجد أحد أجمل قساطل حلب “قسطل الحجارين” المبنيّ بالطراز القوطي/ الإسلامي، وباستثناء قصور السلاطين والأمراء فإنَ دور العاصمة العثمانية لا تتساوى بدور حلب من حيث الإضاءة والزخرفة، وفن الحفر على الخشب الذي وصل في حلب إلى درجة الكمال، وكذلك تطوَرت الأعمال الدقيقة والناعمة على الأحجار وكانت بديعة أيضاً، ولا تقلّ الجدران الخشبية والأحجار غير المزخرفة أهمية وشهرة، وخاصة عند صنع أبواب بمصراع أو مصراعين في الجوامع الكبيرة القديمة والقصور والمحاريب ورصف الباحات الغنية بالأشكال الهندسية.