دراساتصحيفة البعث

رعاية صحية أم قضية سياسية؟

هيفاء علي

عبّر وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درمانان، عن انفتاحه على مقترح الجمهوريين بإعادة النظر في آلية الرعاية الطبية التي تقدّمها الحكومة للأجانب المقيمين في فرنسا بطريقة غير نظامية، وهي آلية يعتبر منتقدوها أنها أحد أبرز دوافع الهجرة غير النظامية إلى فرنسا، الأمر الذي ينفيه آخرون. وبحسب مراقبين فرنسيين، فإن هدف وزير الداخلية الواضح هو إرضاء أعضاء مجلس الشيوخ ونواب حزب “الجمهوريون” الذين يرغبون في استبدالها بالمساعدة الطبية الطارئة.

وقد تمّ إنشاء الرعاية الصحية الحكومية عام 2000، في ظل حكومة ليونيل جوسبان، وهي آلية تتكفل بموجبها الدولة بالأجانب، المقيمين بشكل غير نظامي والمتواجدين على الأراضي الفرنسية منذ مدة لا تقلّ عن ثلاثة أشهر، بنسبة 100٪ عن الرعاية الطبية والإقامة في المستشفى، وتشمل تغطية الأمراض، الأمومة، ولكن أيضاً الأطراف الصناعية والعناية بالأسنان أو حتى المعدات البصرية، على أساس تعريفات الضمان الاجتماعي. إلا أن أحزاب اليمين واليمين المتطرف تدعو على الدوام إلى إلغاء الرعاية الصحية الحكومية، والتي تعتبر أنها آلية تشجع على الهجرة غير الشرعية. وخلال مناقشة مشروع قانون الهجرة الأولي لجيرالد دارمانان خلال شهر آذار الماضي، أقرّ الجمهوريون في مجلس الشيوخ تعديلاً يقضي بتشديد هذه الآلية.

بعد ذلك، عبّرت النائب عن حزب “الجمهوريون” فيرونيك لواغي عن قلقها بشأن زيادة تكلفة الرعاية الصحية الحكومية، وذلك في تقرير برلماني نُشر في 17 أيار الماضي، حيث كتبت في تقريرها حول تكلفة الرعاية المقدمة للأجانب في وضع غير نظامي الذي تمّ فحصه في اللجنة المالية أن التكلفة الحقيقية للرعاية الصحية الحكومية تبلغ نحو 1.2 مليار يورو في عام 2022، وفي ظل غياب الإصلاح، سيستمر هذا الرقم في الارتفاع خلال السنوات المقبلة. ووفقاً للمقررة المختصة في الاعتمادات المالية الخاصة بالصحة، والتي كانت قد أعدّت تقريراً عن الرعاية الصحية الحكومية عام 2021، فإن عدد المستفيدين من هذه المساعدة يقدّر بنحو 403،144 شخصاً في نهاية أيلول 2022، وهو رقم ارتفع بنسبة 5.9٪ مقارنة بعام 2021 وبـ20.5٪ مقارنة عام 2019.

وفي تقريرها أيضاً، دعت فيرونيك لواغي إلى إعادة توجيه الرعاية الصحية الحكومية نحو الرعاية الطارئة أو، في حالة فشل ذلك، إعادة تحديد سلة الرعاية لإقصاء بعض الإجراءات الطبية، أو حتى استبعاد طالبي اللجوء القادمين من بلدان المنشأ الآمنة من إجراءات القبول للإقامة للعلاج، وهي فلسفة تبناها القادة “الجمهوريون” ضمن توجههم الأخير الهادف لإجبار الحكومة على اقتراح مشروع قانون أكثر حزماً بشأن الهجرة.

وفي حين أبدى جيرالد دارمانان، وهو بدوره منحدر من حزب “الجمهوريون”، انفتاحه على مناقشة المسألة، فإن إلغاء أو تغيير الرعاية الصحية الحكومية غير مؤكد، لأن هذا الملف يقسّم الأغلبية الرئاسية، فالنائبة ساشا هولي، ممثلة الجناح اليساري لحزب النهضة، اعتبرت أن إلغاء هذه الرعاية الصحية خط أحمر. أما وزير الصحة، فرانسوا بروان، فقد أشار من جهته إلى أن هذا الامتياز يمثل أحد “تحديات الصحة العامة”، مضيفاً أنه إذا انتشر “كوفيد” مجدداً، ولحق الأشخاص الذين يمكنهم الاستفادة من المساعدة الطبية الحكومية، فلن نعالجهم  وسنسمح للمرض بالتطور، فنحن بحاجة إلى رؤية شاملة للصحة العمومية، واعتبر في الوقت نفسه أنه من غير المنطقي أن يكون هناك مسالك للقدوم وتلقي العلاج في فرنسا للحالات التي يمكن للمرضى علاجها في بلدهم الأصلي.

ومن جهتها، رفضت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن فكرة أن الرعاية الصحية الحكومية آلية مشجعة على الهجرة خلال النقاش حول سياسة الهجرة في الجمعية الوطنية، مؤكدةً أن الرعاية الطبية الحكومية لا تغذي الهجرة غير النظامية، بل هي مسألة حماية وصحة عامة، لا تحفزها هذه الآلية فقط.

ووفقاً لدراسة المركز الوطني للبحث العلمي التي نُشرت في شباط 2022، فإن الأسباب الصحية لم تذكر سوى 9.5٪ من المهاجرين غير الشرعيين. وقد أشارت فلورانس ريغال، رئيسة منظمة أطباء العالم خلال مقابلة مع صحيفة “لو باريزيان” نُشرت في 24 آذار الماضي إلى أن عدد المستفيدين الحقيقيين من الرعاية الصحية الحكومية أقل بكثير من عدد الأشخاص الذين يمكن أن يستخدموا هذا الحق، لأن نسبة عدم استغلاله تقدّر بنحو 49 بالمائة.

ولكن بعيداً عن الحقائق، أصبحت الرعاية الصحية الحكومية قبل كل شيء قضية سياسية، وبالنسبة إلى جيرالد دارمانان، سيتعلق الأمر بالاستجابة لمطالب “الجمهوريون” لتمرير مشروع قانونه أو عدم تقسيم الأغلبية.