“النظام الغربي القائم على القواعد” يُقابل بازدراءٍ عالمي
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
ما زالت التوقّعات الأمريكية حتى اللحظة مخيّبة للآمال لجهة تحشيد الرأي العام ضدّ روسيا مستغلةً الحرب التي أشعلت فتيلها في أوكرانيا مع حلفائها من دول “الناتو”، فرغم مضيّ عام ونيف على العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، فإن معظم دول العالم ترفض الانضمام إلى الركب الأمريكي والتصويت بالموافقة على فرض عقوبات من أيّ نوع على روسيا حتى إن كانت تلك الدول لا تؤيّد هذه العملية، حيث نلحظ أن حالة الاحترام أو على الأقل الحياد هي السائدة في معظم تلك الدول الواقعة في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعموماً في دول ما يُطلق عليه اصطلاحاً “عالم الجنوب”، فقد أعلنت مراراً وتكراراً رفضها التصويت في مجلس الأمن والأمم المتحدة لإدانة روسيا أو فرض العقوبات عليها، باستثناء حوالي أربعين دولة تقف خلف الولايات المتحدة سواءٌ في الاتحاد الأوروبي أم بعض الدول الآسيوية التي تصنّف كأذنابٍ للإدارة الأمريكية، والمتأثرة جميعها بحالة “روسوفوبيا” التي دأب الإعلام الأنغلوساكسوني على نشرها حول العالم مستغلاً آلته الإعلامية الضخمة التي بدأ الصدأ وقلة الصدقية ينخران مركبها الآخذ نحو المزيد من الغرق في خضمّ بحر الأزمات الاقتصادية التي استهدفت الشعوب الغربية وحرمتها من حالة الرفاهية التي كانت تنعم بها.
لقد كان لمعظم دول العالم مبرراتها في موقفها المتمثل في الحياد إبان الحرب الأوكرانية لأسباب عديدة مباشرة وحتى بعيدة، حيث أيقنوا جميعاً أن هذه الحرب ما كانت لتحدث لولا تدخل “الناتو” المباشر ورغبته في نشر أسلحته على تخوم روسيا والتوسّع شرقاً لتهديد أمنها وتطويقها تنفيذاً لأجندات تُهدّد وحدة وسلامة أراضي هذه الدولة لمجرد اعتبارها منافساً من الولايات المتحدة، كما أن معظم الدول شعرت بالازدراء تجاه قيام النظام الأوكراني بارتهان بلاده لمصلحة الغرب نتيجة ثقته العمياء بسياساتهم التدميرية التي ستحوّل البلاد إلى أنقاض وأطلال في وقت قصير لمجرد تحقيق غاية الغرب المزعومة في “استنزاف روسيا عسكرياً واقتصادياً”.
إن العلاقة بين روسيا ومعظم دول العالم قوية لاعتبارات عدّة، أهمها أنها تعدّ مصدراً أساسياً لشراء السلاح والطاقة والغذاء والأسمدة وبأنسب الأسعار، وبالتالي لا يمكن لأحد مقاطعتها دون تداعياتٍ مدمّرة ستنعكس عليه أولاً، فالأمر لا يتعلق بكماليات أو أشياء للزينة بقدر ما يتعلق بأمن الطاقة وأمن الغذاء واستقرار هذه الدول الذي لم ولن تحققه واشنطن وحلفاؤها، وحتى لو عرضوا البديل فسيكون الثمن هو التدخل والارتهان والعديد من التبعات المدمّرة، وخاصةً بعد أن رأت معظم دول العالم ما حلّ بدول أوروبا نتيجة انقطاع الغاز والنفط الروسيين عنها واضطرارها لتأمينهما بأضعاف سعرهما من الولايات المتحدة التي اعتبرت ذلك فرصة للربح وجني الفوائد متناسيةً أي علاقة تحالف تربطها معها، وفي السياق نفسه أعلن صندوق النقد الدولي أن أكثر من خمسين دولة أصبحت عاجزة عن وفاء ديونها بعد اندلاع الحرب الأوكرانية وتداعياتها، وأيقنت معظم دول العالم أن وقوفها في وجه روسيا وتأييد فرض العقوبات عليها سيضعها في أتون وخندق أزمات لن تتمكّن من الخروج منه ولن يساعدها أحد على تخطّيه، فروسيا بالنهاية دولة كبرى وتشكّل قطباً عالمياً لا يُستهان به لأنها تشكّل عصباً حيوياً عالمياً لجميع الفعاليات والأنشطة، ولا يمكن تصنيفها على أساس المعايير الأوروبية الزائفة لجهة رقم الناتج المحلي الذي تتباهى به دول الاتحاد الأوروبي التي ترزح الآن تحت أزمات التضخّم وغلاء المعيشة وإضرابات العمال والنقابات، ناهيك عن المظاهرات الرافضة لسياسة “الناتو” وتقديم الدعم العسكري والمالي لمصلحة نظام كييف.
لكن بالمقابل المحاولات الأمريكية لم ولن تتوقف حتى تاريخه لاستمالة دول العالم وإقناعها بعزل روسيا والوقوف ضدّها، حيث حاولت الضغط على دول “أوبك بلس” لرفع إنتاجها من النفط بهدف خفض أسعاره وحل أزمة الطاقة في الأسواق الأوروبية وتحقيق الخسائر لروسيا، لكن تلك الدول رفضت لاعتبارات عدّة أبرزها أن اقتصاداتها تعتمد على تصدير النفط بشكل أساسي، وستكون في طليعة المتضرّرين من قرار خفض السعر، كما أن الغرب لم يتدخّل سابقاً لرفع السعر عندما هوى سعر برميل النفط إلى مستوياتِ صفرية إبان أزمة كورونا.
لقد أخطأت الإدارة الأمريكية في إتمام لعبتها السياسية هذه المرة عبر رفع شعارها الفارغ المحتوى والمتمثل في الحفاظ على “نظام القواعد” الذي تحاول من خلاله إيهام العالم بأنه الحل الأمثل للحفاظ على استقرار أمنه وعلاقات دولة مقدّمةً المثال بأنه حافظ على الاستقرار بين دول الغرب منذ منتصف القرن الماضي متناسية حالة توازن القوى الموجودة ضمن هذه الدول، ويسجّل على الإدارة الأمريكية هنا الانفصال عن الواقع برفعها هذا الشعار بعد أن تفنّنت بخرق القانون الدولي وتخطّي مؤسساته وأشخاصه الاعتباريين وأعرافه بالتعاون والتأييد من أبرز حلفائها في العديد من المرات، حيث تبيّن لجميع دول العالم أن الإدارة الأمريكية تستخدم نظام القواعد لتحقيق مصالحها الجيوسياسية أو الحفاظ على مناطق نفوذها حتى لو كانت في غير قارات، وخاصةً أن هذا النظام لم يسبّب لدول العالم الأخرى سوى الحروب والكوارث والاضطرابات.
ومن أبرز الكوارث التي تسبّبت بها الولايات المتحدة من خلف ستار هذا النظام غزو العراق وأفغانستان، وقصف ليبيا وتسليح ميليشيات ضدّ الدولة في خرق صريح لقرارات مجلس الأمن الذي فوّض الغرب بالتدخل لحماية المدنيين لا أكثر، وعلى الصعيد السياسي، شاهد العالم خروج أمريكا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2018 لمجرّد انتقاده الممارسات الإسرائيلية ضدّ الشعب الفلسطيني، وانسحابها من منظمة الصحة العالمية في أوج جائحة “كورونا” لمجرّد أن قراراتها لم تأتِ وفق السياسات والأهواء الأمريكية، كما فرضت الإدارة الأمريكية عقوباتٍ أحادية على قضاة المحكمة الجنائية الدولية لمجرّد إدانتهم لجنود ومسؤولين أمريكيين بارتكاب جرائم حرب في أفغانستان، ناهيك عن تجاهل الحليف “الإسرائيلي” لمئات من القرارات الدولية منذ احتلاله للأراضي العربية في فلسطين والجولان السوري.
ويُضاف إلى ما سبق تأكيد كبار الساسة والمحللين في كل دول العالم أن سنوات القيادة الأمريكية للعالم قد انتهت، حيث لم تجلب سوى الدمار والتنمّر على الشعوب، ناهيك عن استغلالها ونهب خيراتها، مؤكدين أن نظام القواعد البائد سيتغيّر عمّا قريب، فالعالم متعدّد الألوان والأطياف ولا يمكن اختصاره ضمن إرادة منفردة لأمريكا وعدد قليل من سكان العالم بل لا بد من وجود أطرافٍ متعدّدة، والحرب الأوكرانية حتى وإن لم تجلب تعاطف الجميع مع روسيا لكن يسجّل لها أنها أكدت تفهّم أغلبية الدول للمنطق الروسي وأحقيته ضدّ منطق أمريكا وحلفائها الإمبريالي التوسّعي، كما يشير معظم عقلاء هذا العالم إلى أن أمريكا حتى لو نجحت في جني بعض ثمار الحرب الأوكرانية لمصلحة كبريات شركاتها الرأسمالية لكنها على المدى البعيد ستجرّ على كل الشعب الغربي المزيد من الخسارة والانهيار.