الحلول متاحة ولكنها ليست سهلة.. دوران عجلة الإنتاج كفيل بوضع حد للتدهور القائم وعكس البوصلة إيجابياً
معاناة حقيقية يعيشها المواطن السوري وسط غياب الحلول الحقيقية، ما جعل الناس تفقد الأمل بحدوث انفراج قريب، فالأسعار تحلق دون أي ضابط، في وقت تنهار فيه القوة الشرائية لليرة السورية بسبب الارتفاع غير المسبوق لسعر صرف الدولار الذي وصل إلى الـ10000 ليرة!.
ثمة سؤال يطرح نفسه: ما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه الدرجة من الوهن الاقتصادي وانحدار المستوى المعيشي للأغلبية الساحقة من المواطنين، واستمرار ارتفاع سعر الصرف إلى هذا الحدّ المخيف؟!.
السياسة النقدية والمالية!
أستاذ الاقتصاد في جامعة حلب الدكتور حسن حزوري، لم يتردّد بالقول: إن الفشل الحكومي في معالجة السياسة النقدية والمالية هو السبب، فخلال الفترة الماضية استمر إصدار قرارات تخالف كل مبادئ الاقتصاد ومبادئ اقتصادات الحرب، وأدوات السياسة النقدية، ومنها على سبيل المثال التمويل عبر المنصة، التي أثبتت فشلها، وأثبتت أنها المسؤولة عن نسبة 50% من التضخم، ومع ذلك يستمر التمسك بها متسائلاً عن السر في ذلك!.
وحسب الدكتور حزوري “لا يهمنا سعر الصرف، إن ارتفع أو انخفض، بمقدار ما يهمنا دوران عجلة الإنتاج الحقيقي، وخاصة الزراعي والصناعي، وتوفر السلع والخدمات التي تشبع حاجة الناس، فالإنتاج وحده هو القادر على وضع حد لتدهور القوة الشرائية لليرة السورية، وتحسين الوضع المعيشي”
وأشار إلى أن المنتجات الزراعية من خضار وفواكه التي تطرح يومياً في الأسواق، لم تتأثر بسعر الصرف، بل كثير من المنتجات الزراعية انخفضت أسعاره نتيجة غزارة الإنتاج، فلولا الفلاح والمزارع لـ”متنا جوعاً”، ومع ذلك الحكومة لم تقدم للفلاح سوى الوعود الخلبية، والدعم الخجول، والدعم على الورق، وما فشل السياسات الزراعية للمحاصيل الاستراتيجية، كالقمح، إلا خير دليل على ذلك الفشل!.
تحتاج إلى تعديل
وبرأي الدكتور حزوري أن مراسيم منع التعامل بغير الليرة السورية تحتاج إلى تعديل، لأنها أضرت بالاقتصاد الوطني أكبر بكثير من فوائدها، ولم تحقق الأهداف التي صدرت من أجلها، مشيراً إلى أن تطبيق قرارات المصرف المركزي الأخيرة، حول السماح بإخراج وإدخال العملات، يخالف ما نصّت عليه هذه المراسيم، ولذلك نحتاج إلى تعديل، ولاسيما مع عودة قسم مهم من المغتربين لقضاء العطلة الصيفية في بلدهم.
وبيّن حزوري أن القرارات الصادرة عن المصرف المركزي والحكومة بإلزامية التعامل مع المصارف من جهة، وتقييد حركة تنقل الأموال بين المدن، وعمليات السحوبات البنكية اليومية من جهة أخرى، أعاقت النشاط الاقتصادي كما هو معلوم، وأدّت إلى وجود حالة عدم الموثوقية بالإيداع في البنوك، باستثناء المضطر والملزم، كحالات البيوع العقارية وغيرها.
مصارف ريعية
ولفت حزوري إلى حالة من انعدام الثقة بالمصارف السورية، موضحاً أن من لجأ لإيداع عملة أجنبية، خلال فترة الحرب، لا يستطيع سحبها، ومثال على ذلك ودائع مصرف سورية الدولي الإسلامي، وإن أراد أن يسحبها بالليرة السورية فهي تعاد بسعر نشرة المصارف 6532 ل. س، أي بخسارة كبيرة جداً، وحتى ليس بسعر نشرة الحوالات والصرافة 9500 مثلاً.
وقال أستاذ الاقتصاد: إن مصارفنا، وخاصة المصارف الخاصة، لم تعُد مصارف تمويلية تساهم في دعم التنمية وتمويل المشاريع، بل تحوّلت إلى مصارف ريعية، أرباحها ناتجة عن عمولات وسمسرة، كفرض رسوم على كل خدمة أو عملية سحب أو إيداع أو توطين راتب، حتى لو كانت حسابات جارية، ولا يوجد مصارف في العالم تفرض رسوماً على السحب والإيداع من الحسابات الجارية سوى المصارف السورية.
تشجيع الصادرات
وبرأي الدكتور حزوري فإن تشجيع الصادرات مهم لتأمين القطع الأجنبي، رغم أن قسماً من الصادرات الزراعية يكون على حساب الأمن الغذائي ويتسبب في ارتفاع الأسعار، ومع ذلك إعادة قيمة الصادرات بالسعر الرسمي، وليس بسعر صرف الحوالات أو السعر الحقيقي، يكبّد المصدر خسارات كبيرة تحدّ من التصدير.
وأشار إلى ضعف القدرة التنافسية للصادرات السورية نتيجة ضخامة التكاليف، من حوامل طاقة ورسوم وضرائب مالية وتكاليف نقل مشروعة، بالإضافة إلى أن قسماً كبيراً منها غير مشروع، ما ساهم في زيادة التكاليف من رسوم وجمارك وغيرها..
ملاذ آمن!
وبيّن حزوري أن عدم استقرار سعر الصرف جعل المواطنين الذين يملكون سيولة بالليرة السورية، والفعاليات المختلفة أيضاً يلجؤون إلى ملاذ آمن يحمي مدّخراتهم أي إلى الدولرة وشراء الذهب، وهذا أدّى إلى زيادة الطلب على الدولار، ما أدّى إلى تسارع ارتفاع سعر الصرف، كما أن تعقيدات الاستيراد من جهة، والتدخل المشروع وغير المشروع في الأسواق داخل المدن، جعل التاجر في نهاية كل يوم يستبدل ليراته السورية بذهب أو دولار بدل أن يشتري بضائع بديلة، كما أن انعدام توفر المنافسة الحقيقية، والاحتكار شبه المطلق، من خلال وكالات حصرية، لمصلحة أشخاص أو شركات احتكارية، ساهم أيضاً في التضخم وارتفاع الأسعار.
ويؤكد أستاذ الاقتصاد في جامعة حلب، أنه على الرغم من سوداوية المشهد الاقتصادي، لكن تبقى الحلول ممكنة إذا توفرت النيات الطيبة والصادقة، لدى الجهات المعنية، وتمت معالجة الأسباب السابقة بموضوعية وشفافية، وتوفير الظروف المناسبة لدوران عجلة الإنتاج، حينها نستطيع وضع حد للتدهور ونعكس البوصلة بالاتجاه الإيجابي.
سيّئ جداً!
من وجهة نظر الباحث الاقتصادي الدكتور يحيى ركاج فإن الوضع الاقتصادي والمعيشي جدّ سيّئ والأسباب كثيرة، بعضها مبرّر نتيجة الوضع الذي عانينا منه في السنوات السابقة وبعضها غير مبرر نتيجة التعنت في الحفاظ على بعض السياسات غير الملائمة لموارد ومقدرات البلد المتاحة واستراتيجياتها التي يتم رسمها بغض النظر عن ملاءمتها.
وبرأي الدكتور ركاج أننا جميعاً نتحمل المسؤولية في تهاوي سعر الصرف انطلاقاً من الموظف على رأس عمله بما يمارسه من اقتصاد الظل وصولاً إلى التاجر الذي يساهم في تشويه الدورة الاقتصادية وإلى المسؤول الذي يشدّد من القيود التي تعيق حرية العمل والنشاط الاقتصادي، موضحاً أنه لا يمكن لأحد التنبّؤ بما سيؤول إليه سعر الصرف، وأن المحددات اللوجستية الداعمة لاقتصادنا أصبحت متاحة وجيدة، وفي الوقت نفسه نحن مقبلون على اتخاذ عدة إجراءات ضرورية سوف ينجم عنها بالضرورة تضخم في الكتلة النقدية سوف يرافقها زيادة في تشويه الدورة الاقتصادية في ظل القيود غير المبررة على العمل والنشاط مع تزايد الفساد الإداري على مستوى المؤسسات وتزايده أيضاً على المستوى الشخصي لشاغل الوظيفة العامة كنتيجة حتمية للفجوة بين الأجور وتكاليف المعيشة.
وأكّد الدكتور ركاج أن الحل متاح ولكنه ليس بالسهولة، وأولى الخطوات يجب أن تكون بدعم زيادة الإنتاج مع تخفيض تكاليفه سواء بتحمّل الدولة لجزء من التكاليف أم بتشاركية عوامل الإنتاج وفق نظام عقود التسويق والتحالفات ثم زيادة الدور الفعلي لمؤسسات التدخل الإيجابي، وهي رؤى ترتبط بواقع هذه المؤسسات وهيكليتها التنظيمية.
أين المحاسبة؟
الدكتور رامي أمون دعا إلى إعادة النظر في كل تفصيل من تفاصيل السياسة الاقتصادية مع محاسبة كل من تسبب بالوصول إلى هذه الحالة، مشيراً إلى أن الناس فقدت كل أمل بأي انفراج حقيقي وأصبح الكل يفكر بالهجرة وبأي طريقة ومهما كلف الثمن!.
بالمختصر، ما يحدث خطير ومؤلم جداً، وغير مقبول هذا الصمت تجاه ما يحصل من ارتفاع للدولار الذي يرافقه فلتان جنوني للأسعار، المواطن يحتاج أن يعرف ماذا يجري وإلى أين تسير الأمور! لذا المطلوب مبدئياً فرض حالة من الثبات والاستقرار لسعر الصرف، ونجزم أن لدينا كفاءاتٍ وخبرات قادرة في حال استشارتها أن تنقذنا من هذه الورطة التي ستزيد عواقبها الوخيمة إن استمر الحال على ما هو عليه، فجبهات المواجهة تتسع وكلما تأخرنا سُحبت الحلول من تحت أقدامنا، فإلى متى تبقى الحلول الممكنة مؤجلة؟.
غسان فطوم