مات شيخ كتاب المسرح
فيصل خرتش
من هؤلاء الذين يدينون لمدينة حلب، الباحث الأديب عبد الفتاح قلعه جي، الذي يشكل علامة بارزة في سفر المدينة الغني، يشهد على ذلك كثرة مؤلفاته ودراساته ومقالاته المطبوعة، والأستاذ عبد الفتاح ابن لحي شعبي ولد عام 1938 في حي الكلاسة بمدينة حلب، وتعرَف فيه على تنانير الكلس وباب قنسرين (واحد من أهم أبواب حلب) ومجالس المتصوفة، وهذه البيئة الشعبية، وما فيها من مناسبات وطقوس وعادات اجتماعية في الزواج والموت وطقوس الأعياد، جعلته يغوص في أعماق المجتمع، ويستوحي منه مواد مسرحياته، لقد تعلَم في الكتاب ثمَ في مدرسة العرفان الواقعة في المدينة القديمة، وبسبب ضيق يد الوالد، التحق بدار المعلمين، وتخرَج فيها بعد ثلاث سنوات، ثمَ تابع درسته الجامعية، وتخرَج في كلية الآداب من جامعة دمشق ـ قسم اللغة العربية.
والأستاذ قلعه جي يميل إلى الجانب المسرحي دراسة ونقداَ وتوثيقاَ وتأليفاَ، وله مساهمات جديرة بالاهتمام على مستوى إعداد البرامج الإذاعية والتلفزيونية، وهو عضوَ في اتحاد الكتاب العرب، ومن روَاد المسرح التجريبي في سورية، وترَأس فرقة المسرح الشعبي في حلب عام 1968، وأوَل عرض مسرحي قدَمه كان في ريف حلب (قرية دير جمال) عام 1957 فقد نصبوا خشبة المسرح في ساحة المدرسة، وكأنهم تبنوا فكرة المسرح الجوَال، وقد حظي الأستاذ قلعه جي في الأوَل من تشرين الثاني عام1999 من قبل جمعية المسرح في اتحاد الكتاب العرب، وبالتعاون مع مديرية الثقافة، وكان تكريماً يليق بعطائه وإبداعه، ورافق ذلك معرض لمؤلفاته وأبحاثه، وأصدر له اتحاد الكتاب ضمن سلسلة أدباء مكرَمون العدد 11 عدداً خاصاً فيه دراسات غنية ومنوَعة، تناولت أهمَ جوانبه الإبداعية( الجانب المسرحي).
وللأستاذ عبد الفتاح أبحاث منشورة في سبع وأربعين مجلة، وقد بدأ التأليف عام 1971 وألف في حينها ملحمته الشعرية ” مولد النور ” ، وألف كتاباً عن علامة حلب خير الدين الأسدي، صاحب موسوعة ” حلب المقارنة ” وكتب ترجمة عن ياقوتة حلب عماد الدين النسيمي، وحقق كتاباً عن أحياء حلب وأسواقها، وثمة كتاب صدر له عن وزارة الثقافة ” الموسيقار أحمد الأوبري ” وكتب مسرحية بعنوان
” عرس حلبي وحكايات من سفر برلك” وهناك الكثير من المقالات التي نشرت في الصحف عن أعلام حلب وأدبائها، منها: دراسات في الشعر الشعبي، والسهروردي فيلسوف حلب الشهيد، وهذا إن دلَ على شيء فإنما يدل على حبَ متجذر ومتأصل لمدينة حلب.
له كثير من المسرحيات، منها: هبوط تيمور لنك، وملحمة مولد النور، وملحمة القيامة، ومسرحية اختفاء وسقوط شهريار، ومسرحية علي بابا والأميرة شمس النهار، وكلها أعمال منشورة، وهناك أعمال منشورة في كتب، منها: الوعي الجمالي في شعر الشيرازي، والعلاقة بين الموسيقا والفنون، الحكايات الشعبية ودورها القومي والإنساني، قيم تربوية في الحكايات الشعبية، جوانب الوحدة والتوحيد في الأمثال الشعبية، الأغنية وآلية العقل العربي.
ويعتبر الأستاذ قلعه جي أحد أهم كتاب المسرح والأدب في سورية والوطن العربي، وقد جرًب كثيراً لكنه بقي متأصلاً مع الجذور، ومثل هذه المحاولات تحتاج لجرأة في التعامل مع المادة، شكلاً ومضموناً، فلا قيمة لمضمون قديم لم يجد له فسحة في الحاضر الراهن، وهنا تكمن المعاصرة.
إن مسرحه يمتاز بعمق الخطاب المسرحي الذي يشكَل الإنسان محوره الأساسي، فأنصفه وأدان العنف بجرأة وصلت حدَ الشراسة، إنه يسعى لمسرح متأصل ومرهص، وهذان هما ركائز المسرح، إنه أديب متابع وراصد لا يكتفي بالكتابة ولا تشبع نهمه، لأنها إبداع أخير سبقه إبداع أكثر أهمية، يكمن في القراءة الشاملة الواعية المدعمة بالمتابعة العميقة الدقيقة، وهذا هو الإبداع الخلاق المتكامل، الذي سعى إليه الأديب عبر مسيرته الطويلة، فالإبداع حالة تجدد، والنهوض به مستمرَ لا حدود له، وإمساك درره الجميلة فوق طاقات الإنسان.
للأستاذ عبد الفتاح قلعه جي أكثر من مئة مسرحية، وقد توفي صباح يوم الأحد في 16 تموز2023 عن عمر يناهز الخمسة والثمانين عاماَ.