الديناميكيات المتغيرة للجغرافيا السياسية تعزز العالم متعدد الأقطاب
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
أعطت اتفاقية عودة العلاقات التي توسطت فيها الصين بين المملكة العربية السعودية وإيران، لمحة عن الطريقة التي تعمل بها الديناميكيات المتغيرة للجغرافيا السياسية العالمية على تحويل التحالفات الإقليمية. فقد أصبحت حاجة الصين وروسيا إلى وجود الشرق الأوسط إلى جانبهما لتعزيز قدرتهما على تحدي – بل وعكس – النظام الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة واضحة بشكل فعال.
شهدت الأشهر القليلة الماضية تحقيق بعضاً من النجاح في هذا الصدد، الأمر الذي بدا واضحاً من خلال تغريد العديد من دول الشرق الأوسط بعيداً عن إملاءات الولايات المتحدة، وبحسب مراقبين استطاعت بعض الدول تحدي الولايات المتحدة من خلال توطيد العلاقات مع بلدان تعيش صراعاً دائماً مع واشنطن منذ سنوات عديدة.
في الوقت نفسه، يبدو اليوم بشكل أكثر وضوحاً أن كل ما يحدث في الشرق الأوسط ليس مجرد نتيجة للنفوذ الصيني والروسي، إذ يرتبط الكثير منها، في الواقع ، بالسياسات المحددة لبلدان معينة ولحساباتها الإستراتيجية التي تستجيب للسياسات العالمية.
وعلى الرغم من أن الكثير من هذا يحدث في سياق التحول نحو التعددية القطبية، فإن التطورات التالية لا تحظى بالضرورة بوساطة قوى عظمى بين البلدان المعنية لرسم مسارات جديدة. بدلاً من ذلك، أظهرت هذه البلدان أن المنطقة قادرة على تشكيل نفسها كقوة في هذا العالم متعدد الأقطاب.
فمع اقتراب انتهاء الحروب على ليبيا واليمن وسورية، ومع انتهاء حمى ما يسمى “الربيع العربي” الآن، أصبح لدى كل من أنقرة والرياض أسباب لإنهاء فترة العداء – استمرت منذ عام 2010 ولغاية 2020 – وإعادة تشكيل العلاقات بينهما لتتناسب مع الواقع الإقليمي والعالمي الجديد.
هذا، على الرغم من أن تركيا اتبعت سياسة خارجية عدوانية، سعت من خلالها إلى جعل أنقرة زعيمة للعالم الإسلامي، لكن تركيا اليوم بعيدة كل البعد عن تحقيق هذا الهدف، خاصة مع اقتصادها الضعيف حيث أصبح معدل التضخم لديها يزيد عن 60 في المائة، كما فقدت عملتها قيمتها عدة مرات.
في الوقت نفسه، تتعرض تركيا للكثير من الضغوط الجيوسياسية من دول شرق البحر المتوسط، وتتعرض أنقرة أيضاً لضغوط من الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو لتسهيل عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي، ومن ناحية أخرى، تعمل المملكة العربية السعودية على تنويع علاقاتها في أعقاب تضاؤل علاقاتها مع الولايات المتحدة.
إن سعي السعودية لتعزيز قدرتها العسكرية وتطوير نهج عسكري مستقل، يكمن في صميم صفقاتها الدفاعية- الطائرات بدون طيار- الأخيرة مع تركيا، وبالتالي، فإن المصلحة المتبادلة تقرب بين الخصمين السياسيين والأيديولوجيين السابقين.
وبحسب البيان المشترك الصادر في19 تموز الماضي، أعربت كل من السعودية وتركيا عن “تصميمهما” على تعزيز التعاون والتنسيق في الصناعات الدفاعية والعسكرية، وتفعيل اتفاقياتهما بما يخدم ويحقق المصالح المشتركة للبلدين.
في الوقت نفسه، جددت تركيا أيضاً علاقاتها مع الإمارات العربية المحتدة من خلال زيارة أردوغان الأخيرة، حيث وقع البلدان صفقات تجارية بقيمة 50 مليار دولار أمريكي. وبعد رحلات أردوغان، أعلنت أنقرة أنها تتوقع استثمارات أجنبية بقيمة 10 مليارات دولار أمريكي من دول الخليج، مع استثمارات إضافية تصل إلى 30 مليار دولار أمريكي متوقعة على مدى فترة أطول في قطاعات الطاقة والبنية التحتية والدفاع في تركيا.
مع تركيز السعودية نفسها على تغيير صورتها بالكامل في جميع أنحاء العالم لتصبح مركزاً معاصراً للعالم الإسلامي، تحرص على الحد بشكل كبير من مشاركتها المباشرة في النزاعات، حيث يتجلى ذلك بشكل واضح في اليمن، إذ تراجعت الحرب والقتال إلى حد كبير، على الرغم من أن اليمن لا يزال بعيداً عن تحقيق الأمن والسلم. وفي هذا السياق، لابد من الإشارة إلى أن الاتفاق بين السعودية وإيران تركت تأثيراً حاسماً على حالة الحرب في اليمن.
في الوقت نفسه، وعلى الرغم من أن الرياض لم تحقق أي نجاح ذي مغزى بعد، فقد بات واضحاً أن نهج الرياض تجاه اليمن يتغير وأنها حريصة على الخروج من هذا الصراع.
ومن الجدير بالذكر، أن لخروج السعودية من الحرب على اليمن أكثر من سبب، فعلى سبيل المثال، لم يعد الدعم الأمريكي متاحاً كما كان في السابق، كما أن الحرب في اليمن تسببت بخسائر فادحة في مواردها المالية.
ومع ذلك، لا يعني أي من هذا أن الشرق الأوسط بدأ يبرز أو يتوحد ككتلة على غرار الاتحاد الأوروبي أو رابطة دول جنوب شرق آسيا” آسيان”، فلا يزال الشرق الأوسط بعيد كل البعد عن ذلك، لكن التطورات التي شهدناها أو سنشهدها – بما في ذلك زيادة التعاون الدفاعي بين بعض الدول – تشير إلى تحول دقيق نحو مثل هذا الاحتمال في المستقبل، ولكي تظهر مثل هذه الكتلة، ينبغي أن تتلاشى خطوط الصدع الإقليمية.
في حين أن خطوط الصدع هذه، على سبيل المثال، الانقسام الأيديولوجي الذي يفصل بين تركيا والسعودية وقطر لم تختف، فقد تعلمت هذه الدول أن تجاوز هذه الصدوع أصبح ضروري لتطوير العلاقات بطرق مفيدة لكافة الأطراف.
وهو بالضبط ما فعلته الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية. بالنسبة لدول الشرق الأوسط، هناك بالتأكيد فرصة لفعل الشيء نفسه في أعقاب خروج الولايات المتحدة من المنطقة وإمكانية تحالفات متنوعة مع القوى العظمى، والإرادة لتحويل اقتصاداتها السياسية بعيداً عن الاعتماد على النفط.
والأهم من ذلك، أنه كلما زاد تركيز الشرق الأوسط على تحييد خطوط الصدع الداخلية والظهور كمنطقة، زاد تعزيزه لسياسات عالم متعدد الأقطاب، وفي ظل الظروف الحالية، فإن فرصه في البروز والبقاء كمركز قوة تكمن في ارتباطه بهذا العالم متعدد الأقطاب، لكن ضمن عالم أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة، سيبقى الشرق الأوسط لاعباً صغيراً غير قادر على التأثير على السياسات الإقليمية والعالمية لصالحه.