د. نزار بني المرجة.. لا أستطيع أن أكون حيادياً ولست من المؤمنين بمقولة الفن للفن
البعث الأسبوعية- أمينة عباس
يكاد الوسط الثقافي والأدبي لا يجمع على محبة وتقدير أحد كما يجمع على الشاعر الطبيب نزار بني المرجة لوطنيته وأخلاقه وإنسانيته وإبداعه، فهو لم يقبع في برجه العاجي في فترة الحرب على سورية، بل كان هاجسه أن يتابع واجباته الوظيفية العسكرية والمهنية الطبية والاجتماعية والثقافية مصرّاً على مواجهة المصاعب التي تعرض لها رغم قسوتها ووصولها درجة مواجهة الموت عدة مرات، ويعرف المحيطون به أن عروضاً مغرية قُدمت له لمغادرة الوطن بعد استهدافه شخصياً، وقد كان جوابه دائماً:”لن أغادر، وسأكون صغيراً جداً إذا غادرت الوطن ونحن في حالة حرب”، كما يؤمن أن الطب يداوي الجسد، والشعر يداوي الروح، وأن الأديب الذي يحمل اختصاصاً علمياً يبقى الأدب بالنسبة له هواية، والإبداع برأيه يتجلى في الهواية أكثر لأن الاحتراف قد يضعف أو يقتل الموهبة مع مرور الوقت.
*ولدتَ في بيت مجاور لبيت أهل نزار قباني في حي مئذنة الشحم، فهل أثر ذلك على بداياتك في كتابة الشعر؟
**كانت ولادتي في بيت قريب جداً من بيت شاعر دمشق نزار قباني في حي مئذنة الشحم مصادفة جميلة في حياتي، مع الفارق في العمر بيني وبينه والذي لم يحل دون لقائي به في العام 1977 في منزل شقيقه الأكبر بجوار حديقة الجاحظ في المالكي، وهو البيت الذي شيّع منه بعد نقل جثمانه من لندن إلى دمشق بطائرة خاصة بتوجيه من الرئيس الراحل حافظ الأسد، وأعتقد أن بيئة ذلك الحي هي التي أسهمت في تكوين شخصيتي الشعرية مثلما ساهمت في تكوين شخصية نزار قباني المتميزة، فأمر غير عادي أن يعيش المرء طفولته في بقعة ذات خصوصية فائقة من دمشق القديمة بجوار سوق مدحت باشا والبزورية وحي الشاغور الأصيل المجاهد وقريباً من الجامع الأموي وسوق الحميدية وأسواق دمشق التاريخية القديمة التي لا يوجد لها مثيل في مدن العالم، حتى لكأنما ولد المرء في حضن التاريخ، تاريخ دمشق العريق، أقدم مدينة مأهولة في التاريخ، كما كانت المدارس التي تلقيت فيها تعليمي ضمن أبنية لها خصوصيتها سواء لجهة فن العمارة الإسلامي والمسيحي أو لجهة البيئة المجتمعية الدمشقية التي تمثل في تلك المنطقة تجمعاً ديموغرافياً فريداً تسوده الألفة والمحبة ليشكل بالنتيجة مجتمعاً إنسانياً حضارياً لا مثيل له، وحتى أساتذتنا في تلك المدارس كانوا يمثلون نخبة راقية، وبعضهم أدباء وباحثون معروفون مثل د.بديع حقي وصميم الشريف ومنير كيال ونصر الدين البحرة وصلاح الدين البحرة وعيسى فتوح وخليل بيطار وحمد جباعي وسيمون حمصي ونهاد تكريتي، وغيرهم، وكان لهم دورهم الهام في تكوين شخصيتي وعشقي للشعر والأدب والثقافة والفنون.
*لماذا كان الشعر وسيلتك للتعبير؟ ومن هو المحرض؟ وبمن تأثرت؟
**كان الشعر هو وسيلة التعبير الأقرب إلى النفس والروح، ربما بسبب البيئة الدمشقية فائقة الجمال، ببيوتها الدمشقية الجميلة وبمواصفاتها الشهيرة المعروفة والغنية بالزخارف والأشجار والزهور حتى لكأن المرء يعيش في قارورة عطر كما قال نزار قباني ذات مرة، وكانت أبنية المدارس التي درست فيها شبيهة بها فكنا نتلقى العلم وسط كبرياء التاريخ وضوع الياسمين وأنواع الزهور.. أليس هذا المناخ هو أفضل زمان ومكان لولادة الشعر وتفتّح القصائد؟ وكانت قصيدتي الأولى في الصف السادس الابتدائي، وقد أعطيتها لأستاذي صلاح الدين البحرة وفوجئت به يطلب مني إلقاءها على زملائي في المدرسة بمناسبة ذكرى سلخ لواء اسكندرون وتقسيم فلسطين في ٢٩ تشرين الثاني عام ١٩٦٦وهذه الحادثة تركت في نفسي أثراً بالغاً، حيث وضعتني على دروب القصيدة وبداية الوقوف في مواجهة جمهور ينتظر ويستمع إلى نص ألقيه.
*تنتمي شعرياً إلى جيل السبعينيات، فما أبرز ما كان يميزه؟
**أنتمي إلى جيل السبعينيات حسب تصنيف النقاد الذين يعتمدون في تصنيفهم على حركة النشر وفعالية المشاركة في نتاج منشور ينتمي إلى هذا العقد من الزمن أو ذاك، وأعتقد أن ما ميز جيلنا هو أننا عاصرنا أسماء هامة من جيل الخمسينيات وما قبلها مثل سليمان العيسى ونزار قباني وشوقي بغدادي ونديم محمد وأنور العطار ونذير العظمة وكمال فوزي الشرابي، وغيرهم، مثلما عاصرنا عبر تماس مباشر أكبر رواد الشعر السوري في الستينيات مثل محمد الماغوط وعلي الجندي وحامد بدرخان وعلي كنعان وممدوح عدوان وفايز خضور وبندرعبد الحميد ومحمود السيد وممدوح السكاف وعبد الكريم الناعم ومحمد عمران وأحمد يوسف داوود وصابر فلحوط وخالد محي الدين البرادعي وسليمان عواد ومحمد الخضر وغيرهم، ولعل ما ميز جيلنا أنه عاش وعاصر أحداثاً مفصلية هامة في تاريخ الأمة مثل نكسة حزيران وأحداث أيلول الأسود وحرب تشرين التحريرية وتوقيع السادات لاتفاقية كامب ديفيد مع العدو الصهيوني وحرب لبنان، وغيرها من أحداث عاصفة تلتْها وكان لها التأثير العميق في نفوسنا كشعراء شباب آنذاك، وكان لابد لتلك التفاصيل من أن تلج بقوة إلى بنية ومضامين قصائد جيلنا في تلك المرحلة.
*ما بين الديوان الأول “أفراح الحزن القارس” 1982وآخر ما أصدرتَه أيّ تحولات طرأت عليك كشاعر؟
**بين ديواني الأول وأعمالي الأخيرة فارق كبير، ربما لجهة التمكن من الأدوات الشعرية والفنية في بناء القصيدة أو لجهة تنوع واختلاف الأغراض الشعرية، وهذه مسألة طبيعية ذات علاقة وثيقة بنضوج التجربة، ومن جهة ثالثة ثمة إدراك مستمد من التجربة يدفع الشاعر بقوة ليقرر ماذا يبقي وماذا يحذف من نتاجه الشعري من باب الغربلة الذاتية المشروعة، حيث ينشر الشاعر حينها فقط ما يشعر بأنه يقدم شيئاً جديداً.
*من يقرأ لك يلمس أنما يعنيك في القصيدة هو الموضوع بالدرجة الأولى.
**ملاحظتك دقيقة، يهمني موضوع القصيدة لأنه يمثل في النتيجة ما أرغب بقوله أو البوح به للمتلقي، وعلى صعيد الشكل فمعروف عني شغفي في التجريب في شكل القصيدة لقناعتي أن القصيدة تشبه امرأة جميلة لها كامل الحق في اختيار ثوبها الأجمل الذي يناسب موضوع القصيدة.
*رأيك بالأشكال الشعرية التي تغري الشعراء اليوم كالومضة والهايكو؟
**هذه الأشكال الشعرية كالومضة والقصيدة القصيرة جداً والكتابة على نمط قصيدة الهايكو اليابانية حق مشروع للشاعر، فنمط حياتنا أصبح يتقبل ويستسيغ وجود نص شعري قصير بعيداً عن المطولات الشعرية، ومن تجربتي المتواضعة أقول أن الدفقة الشعرية هي الأساس، سواء كانت القصيدة قصيرة أو طويلة، والقصيدة الصادقة في المحصلة هي ترجمة لدفقة الشعور أو البوح وحديث الشاعر الصادق طال أو قصر، وأنا مع مقولة أبو تمام “الشعرُ لمحٌ تكفي إشارته” ولست من هواة المطولات، والمهم بالنسبة لي أن تصل الفكرة بقالب شعري لافت بعيداً عن التعقيد والإطالة التي قد تحدث الملل عند القارئ.
*ما هي خطورة أن يتحول الشعر إلى طلاسم برأيك؟
**عندما يتحول الشعر إلى طلاسم يبتعد عن وظيفة الشعر الحقيقية، والقصيدة في هذه الحالة تشبه اللوحة التجريدية المبهمة التي يفسرها كل مشاهد على هواه، فتتعدد التأويلات لتصبح القصيدة أو اللوحة في المحصلة بعيدة عن تحقيق التأثير المطلوب في مدركات وحواس المتلقي.
*في الوقت الذي كان فيه بعض الشعراء يغرق في ذاتيته فيما يكتب كنت وما زلت تكتب بعيداً عنها على الرغم من أن الشعر فن ذاتي بامتياز.
**رغم حقيقة كون الشعر فناً ذاتياً فأنا وفي أوقات المواجهة المصيرية مع أعداء الفكر والإبداع والثقافة لا أستطيع أن أكون حيادياً أو أقبل التقوقع على الذات، وأنا لست من المؤمنين بمقولة الفن للفن، ولا من الذين يهربون من المواجهة باللجوء إلى المواربة والغموض في وقت يحتاج منا إلى الكثير من الصراحة وجلاء المواقف.
*كيف استفدتَ من هواية الرسم والتصوير في شعرك؟
**هاتان الهوايتان تخدمان الشاعر كثيراً في حال توفرت الموهبة، فثمة تواشج وتواصل وجسور بين الفنون في المحصلة والنتيجة، فالنتاج الإبداعي للمبدع ليس منغلقاً على نوع واحد من أشكال التعبير، وبالتاليف أنا أنظر إلى المسألة على أنها مسألة تكامل بين طرق وأدوات للتعبير عن هواجس المبدع وآفاقه الفكرية والجمالية.
*لم تقبع كشاعر في برجك العاجي في فترة الحرب على سورية، فحبذا لو تحدثنا عما أنجزتَه في هذه السنوات؟
** كنت أجد الملاذ الآمن لي في القصيدة أو المقال الذي يمثل قناعتي في كل يوم من أيام الحرب غير المسبوقة على بلدنا لا في الجغرافيا ولا في التاريخ والتي لازالت مستمرة، وقد عبّرت عن قناعتي ورؤيتي لحقيقة تلك الحرب منذ أيامها الأولى في مقالة لي نُشرت في صحيفة “البعث” بتاريخ ٤ نيسان ٢٠١١ بعنوان “قلعة منيعة وطود شامخ” وجاءت في مقدمة كتابي الذي صدر بعنوان “البندقية والكمان.. هواجس ويوميات من زمن الحرب” الذي صدر في العام ٢٠١٦ وأهديته “إلى المؤمنين بسورية وطناً أبدياً للتاريخ والمحبة”، ومعظم ما كتبتُه وأكتبه وصولاً إلى هذه الأيام يدور في ذات الفلك والمدار لأن قدرنا وخيارنا هو المقاومة.
*ناديتَ بضرورة إطلاق مشروع وطني لإعادة الإعمار الثقافي في سورية، فما أهمية هذا المشروع؟
**أطلقت ذات يوم دعوة لإعادة الإعمار الثقافي بالتوازي مع مشاريع إعادة الإعمار لكل ما طاله الخراب والدمار بسبب الحرب الإرهابية التكفيرية على سورية، وحسب قناعتي فالاهتمام بإعادة إعمار البنية التحتية الثقافية أهم بكثير أو لا يقل أهمية عن إعادة إعمار البنية التحتية العمرانية والاقتصادية والإنتاجية لأن الدمار طال كل شيء، وكان استهداف بنيتنا الفكرية والثقافية في طبيعة ما خطط له معسكر العدوان واشتغلت عليه آلة الحرب على سورية في سياق ما سمي بالجيل الرابع من الحروب، والاستهداف الفكري والثقافي بدأ بغزو العقول وغسيل الأدمغة مروراً بتدمير آثارنا ومعالمنا التاريخية ولم يرحم حتى مكتباتنا الشخصية.
*تبؤاتَ مناصب إدارية عديدة، فهل أثر عملك الإداري على إبداعك؟
**من حسن حظي أنني نجحتُ في عدم إضاعة أي شطر من العمر في أعمال ومشاغل غير مجدية، فأنا أومن بضرورة توظيف كل ساعة للعطاء، وأستكثر على نفسي ساعات الراحة والنوم، ومرة كتبت: “الراحة تتعبني، والتعب يريحني” وكنت منسجماً مع نفسي إلى أبعد الحدود، سواء في عملي الطبي العسكري أو في عملي الطبي النقابي والمهني، وربما كان العمل الوظيفي كعضو في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب ورئاستي لتحرير صحيفة “الأسبوع الأدبي” لعدة سنوات الأقرب إلى نفسي وطبيعتي كشاعر، حيث أعطيت شطراً لا يستهان به من العمر لخدمة العمل الأدبي والثقافي، وشعرتُ خلال تلك الفترة بأنني شاركتُ بكل أحاسيسي وبكل كلمة كتبتُها في خوض الحرب مثلي مثل الكثير من الزملاء الأدباء المخلصين على جبهة الفكر والثقافة.
*على الرغم من تقاعدك إلا أنك حاضر بقوة في المشهد الثقافي في سورية،عكس غالبية الأدباء المتقاعدين الذين يعتكفون بعد تقاعدهم.
*الكاتب لا يتقاعد، وموضوع تقاعد الكتاب هو في الأساس حفظ لمكانتهم وتكريم لعطائهم، وأنا على ثقة بأن الكاتب يظل يكتب حتى آخر يوم في حياته لأنه يجد في الكلمة والكتابة تعبيراً عن ذاته وحيويته واستمرار وجوده، وتكريساً لقناعته في الحياة.
د.نزار بني المرجة
مواليد 1954، إجازة في طب الأسنان وجراحتها من جامعة دمشق، حصل على الجائزة الأولى للشعر في المهرجان الأدبي لجامعة دمشق عام 1978، تولى العديد من المناصب على مستوى سورية والوطن العربي منها: رئيس فرع نقابة أطباء الأسنان بدمشق، المدير التنفيذي لاتحاد منظمات أطباء الأسنان العرب, عضو في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب، ترأس تحرير بعض المجلات الطبية والأدبية في اتحاد الكتاب العرب، رئيس نادي فن التصوير الضوئي في سورية ما بين 1994-1995، من دواوينه الشعرية نذكر: سيد الماء والتراب، شعلة الغيم، قصائد حب دمشقية-مع مجموعة من الشعراء- بوح، نام الغزال.