ثقافةصحيفة البعث

المنحوتة البيضاء الراكضة بجذور خضراء

غالية خوجة

ازدهار الإبداع مؤشر حضاري لأي مجتمع وأية أمة، والإبداع متجذر بتراثه ومعاصرته وحداثته في وطننا سوريتنا الحبيبة، والمبدعون السوريون ولشفافيتهم يقنعون بالكلمة الطيبة الموضوعية التي تبصر أعمالهم بحدس نقدي إبداعي أيضاً، لأن الهدف المشترك هو القيمة المستدامة من خلال التطور باتجاه الأجمل.

والجميع مقتنع أن الإبداع لا يكتمل ولا يعرف الكمال لكنه يظل ساعياً إليه حتى وإن دخل إلى زمكانية الديمومة، ولذلك، وببساطة، هو إبداع، وهذا ما تؤكد عليه الحضارة السورية منذ مكتشافتها الأثرية التي تحضنها المتاحف، والتي ما زالت تنبع آثاراً فريدة يحتفظ بها باطن الأرض، وليس آخرها، بالطبع، اللوحات الأرضية الفسيفسائية قرب الرستن.

سيمبوزيوم بمنحوتات الأمل والمحبة

وفي زمننا المعاصر، عرفت حلب حتى لحظة الحرب الإرهابية الظالمة، زخماً إبداعياً في كافة المجالات، وفي كل مكان، فكان المشهد الشعري والروائي والقصصي متفاعلاً كما المشهد الفني الموسيقي والتشكيلي، وكانت المحبة العامة طاغية على التنافس الجمالي، وكان المتلقي متابعاً وباحثاً عن الجديد.

ومن تلك الأجواء التي نتمنى استعادتها قريباً، السيمبوزيوم الفني النحتي الذي نشر مجسمات ومنحوتات الفنانين المشاركين من حلب وغيرها من المحافظات في الأماكن العامة مثل الحدائق والشوارع والكليات، مما أضاف قيمة مشهدية فنية حاضرة ميدانياً واجتماعياً، إضافة لتزيين الساحات والدوارات والتقاطعات بمنحوتات ومجسمات ملفتة منها منحوتة لفظ الجلالة في فضاء جامع الرحمن، ودلة القهوة في دوار الدلة، والحصان والفارس في دوار باسل الأسد، ودوار الشعر والكتاب في دوار الشاعر عمر أبو ريشة، ومجسم الأسرة في دوار “الصخرة”.

ويتفاعل الأطفال واليافعون مع المنحوتات في الحديقة العامة أو حديقة السبيل أو ساحة جمال عبد الناصر أو ساحة السيد الرئيس أو ساحة سعد الله الجابري، فيحضنونها أو يتسلقونها، كما يتصور معها العابرون، أو يجري معها حواراً صامتاً أولئك الوحيدون الجالسون على الكراسي الخشبية الخضراء، المستظلين بأشجار ذكرياتهم، الممسكين بالضوء ما قبل الأخير من أحلامهم، تلك التي لا يقطعها إلاّ بعض المتسولين، أو الباعة الذين يصرون على بيع سلعهم إصراراً وتخجيلاً دون أي رقيب من الجهات المعنية!

أمّا ماذا عن المنحوتة الراكضة بتفاؤل وسعادة في حديقة صالة الأسد للفنون الجميلة مع منحوتات أخرى؟ وهل من ملتقى قريب؟

هذه المنحوتة للفنان النحات إياد بلال من حمص، أجابني التشكيلي إبراهيم داود أمين سر اتحاد حلب للفنانين التشكيليين، وتابع: وتتوزع في حديقة هذه الصالة مع 20 منحوتة من ملتقى الأمل للرسم والنحت الذي أقيم عام 1998، والذي شارك فيه 100 فنان وفنانة من كافة المحافظات، وأكد: نحضر لملتقى للرسم مع المائة السورية في مدرسة سيف الدولة.

منحوتة تنبض بقلوب سكان الأرض

والملفت، أن هذه المنحوتة ظلت ممسكة بالأرض وراكضة في آنٍ معاً رغم الحرب والزلزال، وستظل متمسكة بالأرض وراكضة بين الأشجار مع الأمل والطاقة الإيجابية والصبر الجميل الذي عرفه كل مواطن سوري، وكل امرأة سورية، حاضنة قلبها الأبيض، ناثرة شعرها “الغجري المجنون” كما يصفها الشاعر نزار قباني غيوماً بين لون الفصول وإطلالات الغيوم، ساهرة مع النجوم، وكأنها سادنة الحكايات بنهاياتها المفتوحة المتحركة مع النسمات المتغلغلة لخصلاتها وحواف ثوبها وأفكارها المشمسة والغائمة والماطرة، تركض متأملة الحياة التي تدور حولها، فترى، يومياً، مرضى مشفى الرازي وهم يأملون الشفاء، وتشعر بحركة الناس الذاهبة إلى شؤونها، وبأولئك المنتظرين لوسائل النقل الذين لم يعودوا مراعين كثيراً لقيمة الشهامة، لا سيما الذكور منهم الذين يرون امرأة حاملاً، أو حاملة لطفلها، أو عجوزاً، أو مريضاً، فلا يهبون للمساعدة، أو للتخلي عن الكرسي ليجلس أمثال هؤلاء!

المنحوتة البيضاء تركض محفوفة بمواء القطط، وزقزقة العصافير بين الأغصان، خصوصاً، مع الشفق والغسق، وتستمع لأصوات الباعة، وتمسح بظلها على رأس طفلة تبكي، وتركض إلى فرن الرازي لتقف في الطابور؛ تركض بين الناس في حديقة الرازي، في الشوارع، وتعود مع جذورها وخطواتها وآمالها بمشاهد جديدة تحكيها لمنحوتات حديقة الصالة، فتتناقلها الأيام، وتنشرها بين المنحوتات المنتشرة في هواء حلب الطلق.

المنحوتة الراكضة تتجول في كل مكان، وتحضر معنا المعارض التي تقام في هذه الصالة، فتعجبها عودة الحركة إلى الحياة كما أعجبتها وتعجبها شجاعة المدافعين عن أرضهم، وكلما حدّقت في الفضاء رأت دماء الشهداء خضراء تسري بين نجمتيّ العلم ونسوغ الجذور والجذوع والأغصان والتربة والغيوم والشمس والقمر والنجوم وألوان السماء، فيرتجف قلبها الأبيض، وتغور قدماها أكثر، وتفتح ذراعيها لتطلق حمامات الأمل والإنسانية والسلام لعلها تصل إلى سكان كوكب الأرض كما تصل أشعة القمر الأزرق، فيسمعون مثلها بكاء الطفلة الجائعة، وآلام جرحى الوطن، وفراخ العصافير المنتظرة لأمها التي ماتت في الحرب، ويبكون مع أمهات الشهداء، وأمهات المغتربين، ويتوقعون أنهم ليسوا ببعيدين وأولادهم وأحفادهم عن أمثال هذه المعاناة يوماً ما، فيتمنوا لو أنهم منحوتة بيضاء راكضة ليصغوا بقلوبهم لدماء شهداء الحق وهي تسري بين جذور الأشجار ونسوغ السماء وحواف الكون وتتلألأ مع نجوم الثريا وعوالم الفضاء.