إفريقيا تثور ضدّ الاستعمار الدوائي.. هل تكسر الصحوة احتكارات التلقيح؟
بشار محي الدين المحمد
لقد بات واضحاً للجميع أن إفريقيا كانت أكبر مسرحٍ عالمي لابتزازات الغرب على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والمالية والعسكرية، ناهيك عن سرقة ونهب الثروات والتدخل في الشؤون الداخلية والخارجية، وتجارب الأسلحة، أما الجديد فهو الكشف عن الابتزاز الدوائي المريع لشعوب تلك القارة.
إن ما يحدث اليوم هو وليد مسألتين الأولى هي الصحوة الشعبية الإفريقية العارمة التي باتت تتحرك بقوة على إيقاعات نهوض العالم الجديد وتشكيله ملاذاً آمناً للشعوب ومقوضاً قوياً للإرث الاستعماري الغربي، وما سبق ذلك من تداعيات أزمة كورونا التي مزقت الأسطورة المزيفة حول حضارة الغرب وتفوقهم الإنساني عبر تركهم شعوباً كاملة تواجه الموت دون مساعدة.
واليوم تسلّط دولة جنوب إفريقيا الضوء على ممارسات خطيرة لشركات الدواء الأمريكية والأوروبية على أرضها، عبر منظماتها الشعبية العاملة التي أكدت أن تلك الشركات تنظر لشعوب المنطقة على أنهم أضحيات سهلة للتجارب الطبية سواء في لقاحات كورونا غير المضمونة وغير المجربة، أو ما سبقها من لقاحات الأيدز والأيبولا، مبينة أن شركات الدواء- وباعتراف وسائل إعلام غربية- تقوم بشكل غير قانوني وبهدف تحقيق الربح التجاري بإجراء تجارب عديدة في جنوب إفريقيا وغيرها من دول القارة، والنتيجة ظهور مجموعة من الأوبئة الجديدة والخطيرة التي تفتك بهذه الشعوب، كما اعترف عدد من الأطباء الفرنسيون بتجربة شركات أوروبية للقاحات ضدّ السل وكورونا دون وجود عناية طبية مركزة أو علاجات أو حتى كمامات لمن تجرى التجارب عليهم في إفريقيا. حتى منظمة الصحة العالمية لم تكن أفضل حالاً، بل هي كغيرها من مؤسسات المجتمع الدولي المملوكة لأمريكا والغرب، إذ وافقت على منح سكان غرب إفريقيا لقاحات مجهولة الفعالية، ومعروفة السلبيات والأعراض الجانبية بغية تجربة أثرها في إيقاف الأيبولا.
أما من ناحية جني الأرباح المالية، فقد كانت الورقة التجارية للقاحات كورونا الأكثر ربحاً في إفريقيا، ففي وقت بيع فيه لقاح بـ5 دولارات في القارة كان يباع اللقاح ذاته بـ3 دولار في القارة الأوروبية، ومن الناحية شروط التعاقد على اللقاحات الطبية بين الشركات الغربية ودول إفريقية فقد كانت الشروط وللأسف إذعانية ومجحفة بحق دول القارة السمراء، فعلى سبيل المثال شركة “جونسون أند جونسون” الأمريكية اشترطت على جنوب إفريقيا عند إبرام عقود تصدير اللقاحات لها اللجوء إلى قانون ولاية ويلز البريطانية لفض أي نزاع متعلق بالصفقة لا إلى القوانين الإفريقية، أي أنها تسوقت القانون الأكثر تحقيقاً لمصالحها لدرجة أنها لم تختار قانون بلادها، كما حصلت الشركة على مئة مليون دولار كدفعة مقدمة قبل التسليم مع شرط عدم خضوعها لأي غرامات أو تقديمها أي ضمانات في حال تأخر التسليم، وحدث ذلك فعلياً وتأخر التسليم، كما سمحت الشركة لنفسها بإعادة تصدير الدفعات المخصصة لإفريقيا لأي دول تختارها، وحدث ذلك أيضاً وتم تحويل الحصص لبلدان أوروبا.
ويمكننا القول: إن ما ترتكبه شركات أو بالأحرى مافيات الدواء واللقاحات الغربية يشكل فضيحة أخلاقية، وإذا علمنا أن جنوب إفريقيا هي واحدة من أقوى خمس دول سياسياً واقتصادياً على مستوى القارة الإفريقية، فبالتأكيد كانت الممارسات أشد بطشاً وفظاعة وإذعاناً في الدول الخمسين الأخرى ضمن القارة السمراء.
إن ما سردناه آنفاً يعود لأسباب متعددة ولنكن موضوعيين فإن حكومات إفريقية كثيرة كانت مضطرة للإذعان في ذروة جائحة غريبة وغير معروفة النتائج، ولكن ماذا بعد أن خفّت وطأة الجائحة نلاحظ أن الابتزاز ما زال مستمراً وهذا بالتأكيد يدل على فساد تلك الحكومات وتلقيها الرشاوى لإبرام صفقات تهدر أموال شعوبها وتضحي بهم كبالونات تجارب واختبارات غير محسوبة المخاطر، متلطيةً بعدم الشفافية وقلة الرقابة وغياب دور المجتمع المدني، وإن تلك الشركات ضخت مئات المليارات من الدولارات لشركات دوائية في إفريقيا أيضاً لإنتاج لقاحات وتجريبها، وعلى سبيل المثال تحولت شركة أدوية مصرية من مقبلة على الإفلاس إلى شركة رابحة بعد دعمها بالأموال الغربية، ومع ذلك تم رفض منح إنتاجها الاعتراف وهذا يضع مئات إشارات الاستفهام على ما أنتجته تلك الشركات من لقاحات برعاية غربية.
ومهما ادعت منظمة الصحة العالمية سعيها للعدالة في موضوع الرعاية الطبية فإنها بالنهاية مرتهنة كبقية مؤسسات المجتمع الدولي للدول الغربية وشركاتها، وعلى سبيل المثال برتوكول “كوفاكس” الذي أنشأته المنظمة لتوزيع لقاح كورونا على الدول الفقيرة مجاناً وفي طليعتها الدول الإفريقية لم يحقق سوى فشلاً ذريعاً، وكانت جل تبرعاته من الدول العادية لا الغنية الغربية التي كان دورها مجرد التوقيع لا أكثر، في وقت كان من المفروض أن يكون هذا البرتوكول خطوة غير مسبوقة لإنقاذ الدول النامية طبياً، ومد يد العون لشعوب تحتضر من قلة الرعاية الطبية، فمن ناحية إحصائية تلقى 15% فقط من شعوب إفريقيا جرعة واحدة من اللقاحات و5% فقط من تلقوا جرعتان، أما على المقلب الآخر فإن 85% من شعوب أوروبا تلقوا جرعات كاملة من لقاحات كورونا.
التلقيح العالمي كشف عن نظام صحي تكتنفه العيوب، وبين أن العالم بأسره أصبح تحت رحمة شركات اللقاحات الكبرى، وليس فقط القارة الإفريقية، فهذه الشركات باتت تقرّ بكل وقاحة أنها تعمل وفق مبادئ العرض والطلب حتى لو ضاعفت أسعارها بنسب قد تصل إلى 5 آلاف في المئة في بعض الأصناف الهامة، مستغلةً أن منتجاتها تساعد على استمرار حياة البشر، إن لم الأغنياء منهم فقط، ولكن الجولة الحاسمة في تغيير هذه القواعد ستبدأ من إفريقيا، فالانتفاضة الشعبية في معظم دولها تثور الآن ضد كل ما هو غربي، حتى لو كان مقدماً على طبق من ذهب لأنها أيقنت أن غاياته بكل بساطة أصبحت مكشوفة في قارة أجمل ما قيل فيها: “إنها تشكل حجر الزاوية في تشكيل أقطاب العالم الجديد”.