عبقرية موسيقية انطفأت مبكراً
سلوى عباس
احتفل محبو الموسيقار المبدع سيد درويش منذ أيام بمرور 100 عام على وفاته، هذا الفنان الذي لم يمر مرور الكرام على تاريخ الفن العربي، بل كان شغفه بالموسيقا وغزارة إنتاجه سبباً في استمراره كـملهم وعنصر مهم من عناصر التجديد، كما أنه ارتبط بالشعب وقضايا الوطن والمجتمع، وتعتبر إسهاماته بمثابة علامات فارقة في مسار فنون الأغنية والأوبريت والنشيد والموشح والمسرح الغنائي، وقدم أعمالاً من وحي البسطاء قريبة منهم لأنها تعكس واقعهم وتفاصيل حياتهم، من بينها “الحلوة دي قامت تعجن” و”شد الحزام على وسطك” و”طلعت يا محلا نورها”.
ولد سيد درويش في الإسكندرية في نهاية القرن التاسع عشر، وكان المشرق آنذاك يشهد تحوّلات ثقافية وفكرية إثر الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام عام 1798، حيث ولدت تيارات فكرية كان لها تأثير في المجالات الثقافية بشكل عام، وأحد هذه التيارات الموسيقية نادى بـ “التجديد من الداخل” من خلال إحياء التراث الثقافي الموسيقي وتجديده عن طريق استثمار المعارف العلمیة والتقنیة الغربية، بشرط الحفاظ على هويته، أما التيار الآخر فنادى بـ “التجديد من الخارج”، فدعا إلى تطعيم الثقافة المحلية بعناصر غربية كمدخل للتحديث والنهوض، وقد تعايش هذان التياران خلال القرن التاسع عشر، واستمر وجودهما –رغم السجالات التي كانت قائمة بينهما – خلال القرن العشرين وحتى الآن، وتشير المراجع إلى أن هذا الجيل اعتمد في عملية التجديد على أربعة تقاليد موسيقية كانت حاضرة في القاهرة خلال تلك الحقبة، وهي: الموسيقى الشعبية المصرية، الموسيقى الدينية، الموسيقى الحلبية الممثلة بالموشح، التقليد الفني العثماني. ومن الشائع أن سيد درويش كان شيخاً مؤذّناً في الإسكندرية، وأنّه نشأ في عائلة تنتمي إلى طبقة فقيرة، وأنه تنّقل بين الإسكندرية والقاهرة ودمشق وحلب.
لم ينل سيد درويش أي تعليم أكاديمي في الموسيقى سوى القليل الذي حصّله من التحاقه لبضعة شهور بمدرسة إيطالية للموسيقا في الإسكندرية، وكل ما تعلّمه كان مكتسباً إما من استماعه لمشاهير المقرئين والمطربين، أو ما حفظه عن الموسيقيين القدماء في الإسكندرية وبيروت وحلب والقاهرة، إضافة لقراءاته في كتب الموسيقى العربية القديمة، وقد روي أنه بدأ بتعلم الموسيقى من كتاب اشتراه من بائع يعرض كتبه القديمة على رصيف الشارع، وأنكب عليه يلتهم ما فيه ومن ثم اشترى عوداً قديماً وبدأ بتعلم العزف عليه مسترشداً بالكتاب، وفي سن الخامسة عشرة من عمره وجد أنه قادر على تأليف الموسيقا ووجد أنه يلحن أشياء جديدة تختلف عما كان سائداً فتخوّف لصغر سنه وقلة تجربته أن يعرّض نفسه للسخرية والتكذيب إذا جاهر أنه صاحب اللحن، ولهذا بدأ ينسب ألحانه لملحن ومغن شهير وقتها اسمه إبراهيم القباني، ولما أعاد التجربة ووجد ان هذه الألحان تنال استحسان الناس بدأ يقدم نفسه كمؤلف لها.
السؤال الذي يحضر هنا ما هي الأسباب التي أتاحت هذا الانتشار الواسع لسيد درويش، وهذا العبور للأجيال اللاحقة؟ وما الذي يجعله معاصراً لنا؟ لتتلخص الإجابة بعوامل عدة أهمها: بساطة اللحن وتركيبه، التجديد الموسيقي والتوفيق بين الكلمة ومرادفها النغمي، اختيار مواضيع الغناء والبراعة في التصوير الكاريكاتوري، النهوض بالمسرح الغنائي، الانحياز إلى قضايا النّاس، التحرر الفكري والديني، معارضة السلطة والاستعمار وغيرها، وفي كتابه “سيد درويش المؤسس” يعزو فيكتور سحاب مصادر إلهام درويش إلى خمسة مشارب هي تجويد القرآن، الغناء القومي، المسرح الغنائي والأوبرا الغربية، الموشحات والقدود الشامية، والألحان الكنسية، ويحلل كيف عمل درويش على صهرها جميعاً لتشكل سيرة حياة مبدع موسيقي ترك تراثاً فنياً كبيراً رغم سنوات عمره القصيرة.
ويكمن السر في انتشار أغاني الشيخ سيد بين أفراد الشعب هو أن لكل لحن قصة ومناسبة ولكل مناسبة أثرها العميق في نفس السيد درويش المرهفة الحساسة، فأول أغنية لحنها كانت “زوروني كل سنة مرة” وكانت مناسبة تأليفها أن امرأة يحبها قالت له “ابقى زورنا يا شيخ سيد ولو كل سنة مرة”، وفي حادثة أخرى شاهد سيدة تبكي على ابنها الذي سيذهب للجيش، فجاءت أغنية “يا عزيز عيني أنا نفسي أروّح بلدي”، كما غنى لمحبوبته “خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب”، وقدم أيضاً العديد من الأغنيات للعمال والحرفيين.
ولعل الدور الأهم لسيد درويش هو أنه صنع من روحه ذلك الجسر الذي مشى عليه بقية المبدعين من بعده، كما أن الانقلاب الذي أحدثه في الموسيقا غيّر في ذائقة المتلقي أيضاً وخلق جمهوراً جديداً هو غالبية الشعب، كما خلق من الفن الشعبي فناً راقياً أخرج به الفن من الصالونات إلى المسارح والشوارع والبيوت والمقاهي، وكون هذه الموسيقا الجديدة قد اتجهت لعامة الناس لم يمنعها من الاحتفاظ بقيم فنية عالية تثير إعجاب الموسيقيين أنفسهم، وربما هذا هو سر وجود روح سيد درويش الموسيقية في أعمال العديد من الموسيقيين الذين جاؤوا من بعده.