سياسة الصين الخارجية.. احترام سيادة الدول ومعارضة التدخلات الخارجية
البعث الأسبوعية-هيفاء علي
قبل أشهر، أحدثت الصين مفاجأة مع إطلاقها بيانا ثلاثيا يعلن عن توصل المملكة السعودية وجمهورية إيران إلى اتفاق يتضمن الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما، وإعادة فتح سفارتيهما خلال مدة أقصاها شهران.
ولم يكن توصل إيران والسعودية إلى اتفاق بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بينهما طوال سبع سنوات السبب الرئيسي في هذه المفاجأة، فالعالم كله كان على علم بالمفاوضات بين الدولتين منذ أكثر من عام، بوساطتين، عراقية وعُمانية، وأنها قطعت أشواطاً متقدّمة تنبئ بقرب التوصل إلى اتفاق، لكن أحداً لم يتوقع أبداً دخول الصين على الخط، وإقدامها ليس على وضع لمساتها النهائية فحسب، وإنما التوقيع على بيانه الختامي، ما يعني قيامها بدور الراعي والضامن أيضاً. لقد ضاعف من وقع المفاجأة أن أحداً لم يكن يعلم قط أن الرئيس الصيني، شي جين بينغ، هو الذي وجّه الدعوة بنفسه إلى الوفدين، الإيراني والسعودي، للحضور إلى بكين، وأن المفاوضات التي جرت هناك جرت في سرّية تامة. ولأن السعودية تعد أهم حليف للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، فقد عنى هذا الإنجاز أمرين متلازمين: تمكّن الصين من إحراز هدف خاطف وسريع في المرمى الأميركي، وبداية تحرّكها العلني والرسمي للولوج إلى حلبة المنافسة على قيادة النظام العالمي، وهو ما اعتبره بعضهم نقطة تحوّل في مسار السياسة الخارجية الصينية.
في وسع كل متأمل لمسيرة السياسة الخارجية الصينية أن يدرك أن الصين لم تكفّ عن إدهاش العالم قط في كل مراحل تطوّرها، فهذه الدولة، والتي يشكّل سكّانها سدس سكان الكرة الأرضية مجتمعين، ظلت، حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ضعيفة، إلى حد وقوعها فريسة للأطماع الاستعمارية وتعرّض أجزاء واسعة منها للاحتلال الياباني المباشر بين الحربين. وحين نجح الحزب الشيوعي في حسم الحرب الأهلية التي اندلعت في هذه الفترة، وتمكّن من السيطرة على السلطة عام 1949، تصوّر كثيرون أن النظام الشيوعي الذي استقرّ في الصين الشعبية لا يمكن إلا أن يكون تابعاً للحزب الشيوعي السوفييتي، ودائراً في فلك المعسكر الاشتراكي الذي يقوده، وهو ما بدا واضحاً إبّان الحرب الكورية التي اندلعت عام 1950، غير أنه ما لبث أن تبيّن أن النظام الشيوعي الصيني شديد الحرص على المحافظة على استقلاليته السياسية والعقائدية، حتى لو تسبّب هذا الحرص في اندلاع أعمق الخلافات السياسية والأيديولوجية مع النظام السوفييتي، والتي أدّت بالفعل إلى اندلاع اشتباكات مسلحة على حدود أكبر بلدين شيوعيين في نهاية ستينيات القرن الماضي، وتمكّنت الولايات المتحدة من استغلالها لإحداث تقارب تاريخي مع الصين. ثم تابع في ذهول أيضاً كيف تمكّن الجيل الجديد في الحزب الشيوعي الصيني من تصفية “عصابة الأربعة”، عقب رحيل ماو عام 1976، والانطلاق بالصين نحو عملية إصلاح اقتصادي ضخمة، تمكّنت من نقلها عبر مراحل متدرّجة إلى مصافّ الدول الأكثر تقدّماً.
ومن عجائب الصين الكبرى أن الحزب العقائدي الذي قاد عملية تحوّل نظامها السياسي والاجتماعي، اعتباراً من عام 1949، إلى نظام شيوعي، سيكون هو الحزب الذي سيقود عملية إصلاح كبرى تُفضي إلى تحول نظامها الاقتصادي، اعتباراً من 1978، إلى أكثر النظم ديناميكية، من دون أن يغير كثيراً من بنيته السياسية والاجتماعية. وهو الحزب نفسه الذي سيبلور سياسة خارجية شديدة البراغماتية تستهدف:
– أولاً وقبل كل شيء، توفير المقومات والشروط اللازمة لازدهار الصين ونهوضها، والدفع بها نحو احتلال المكانة التي تليق بها في النظام العالمي، وهي سياسة ترتكز على مجموعة من المبادئ، في مقدمتها المحافظة على وحدة تراب “الصين التاريخية”، وعدم التفريط في أي جزء منها، وهو ما يفسّر تمكّن الصين الشعبية من استعادة سيادتها على هونغ كونغ، ثم على جزيرة مكاو، وإصرارها الذي لا يتزحزح على استعادة سيادتها على جزيرة تايوان مهما طال الزمن.
– ثانياً، عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، أو الانغماس في صراعاتها السياسية، أو المشاركة في سياسة المحاور والأحلاف العسكرية، مع التركيز، في علاقاتها مع جميع الدول الأخرى، على تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية كلما استطاعت إلى ذلك سبيلاً.
– ثالثاً، رفض كل مظاهر الهيمنة في النظام الدولي، والعمل على تثبيت قاعدة المصالح المشتركة والفوائد المتبادلة، باعتبارها القاعدة الرئيسية التي ينبغي أن تسود العلاقات بين الدول كافة، وهو ما يفسّر نجاحها المذهل في صياغة وتنفيذ مبادرة الحزام والطريق التي رصدت لها مئات المليارات من الدولارات، واستهدفت الاستثمار في تطوير البنية التحتية للدول المشاركة فيها بما يعود بالنفع على الطرفين، ما مكّنها من أن تصبح الشريك التجاري الأول لمعظم الدول. ويجمع المراقبون على أن هذه المبادرة أصبحت أداة الصين الرئيسية في بناء نفوذها السياسي في العالم.
وإذا كان الانفتاح على الولايات المتحدة في منتصف سبعينيات القرن الماضي قد ساهم في تمكين الصين من استيعاب التكنولوجيا المتقدّمة، ودفعها إلى الاندماج في النظام الرأسمالي المتعولم، فإن انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات ساهم في التطبيع التدريجي لعلاقة الصين بروسيا الاتحادية، ومكّنها من تصفية الخلافات القديمة بينهما، وفي مقدمتها ترسيم الحدود، ومهّد الطريق نحو تمكينهما من إبرام اتفاق لإقامة شراكة إستراتيجية عام 1996. وبعد تسلم بوتين زمام الحكم في روسيا تكشفت آفاق جديدة للتعاون، عبر سعيهما المشترك إلى وضع حد للهيمنة الأميركية المنفردة على العالم، ما مكنهما من عقد اتفاقية “حسن جوار وصداقة وتعاون” عام 2001. ولا جدال في أن التقارب بين البلدين ساعدهما معاً على تحقيق جانبٍ من أهدافهما المشتركة في مراحل مختلفة، فعندما أقدمت روسيا على ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية عليها، أصبحت الصين الداعم الأكبر لروسيا، وساعدتها في التخفيف من عبء هذه العقوبات. وفي المقابل، استفادت الصين من تنازلات وامتيازات كبيرة قدّمتها روسيا لتشجيع الاستثمارات الصينية فيها.
وعندما بدأت الولايات المتحدة تستشعر المخاطر الناجمة عن تنامي النفوذ الصيني على الساحة الدولية، وراحت تسعى إلى تحجيم القدرات الصينية وعرقلة تقدّمها على مختلف الأصعدة، خصوصاً عقب وصول ترامب إلى السلطة، وجدت الصين في روسيا وفي بعض دول الاتحاد السوفييتي سابقاً بديلاً يعوّضها عن خسائر ناجمة عن اشتداد الحصار الأميركي المضروب حولها. وقبل أسابيع من اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتحديداً في 4 شباط عام 2022، تمكّن البلدان من عقد قمة ثنائية، تحت شعار “نحو عهد جديد في العلاقات الدولية”، عبّرا خلالها عن إصرارهما على وضع نهاية للهيمنة الأميركية المنفردة، وإقامة نظام دولي متعدّد الأقطاب، يحترم سيادة الدول، ولا يسمح فيه بفرض الأفكار والمذاهب والأيديولوجيات والقيم قسراً على الدول الأخرى. وقد لوحظ أن حجم التجارة بين البلدين قد حقق زيادة قدرها 27.8% في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية، لتحلّ الصين محلّ الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري لروسيا.
تدرك الصين جيداً أنها وصلت إلى درجة من التقدّم الاقتصادي والتكنولوجي بات من الصعب معه على الولايات المتحدة أو غيرها، عرقلة تقدّمها أو منعها من المنافسة على صدارة النظام الدولي. صحيحٌ أنها تدرك جيداً أنها لم تصبح بعد القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى، لكنها تعي، في الوقت نفسه، أن الوقت يعمل لصالحها، خصوصاً أنها تمثل الثقل الديمغرافي الأكبر في العالم. وفي هذا السياق، يمكن فهم التحرّك الصيني لتطبيع العلاقات بين إيران والسعودية، ما قد يفتح آفاقاً غير محدودة لتغيير موازين القوى، ليس في هذه المنطقة فحسب، وإنما في العالم بأسره، خصوصاً إذا نجحت في رعاية الاتفاق الإيراني السعودي حتى النهاية، ووقفت في وجه المحاولات الرامية إلى إفشاله. وإذا نجحت الصين، في تعهد الاتفاق السعودي الإيراني بالرعاية، إلى أن يصل إلى غاياته النهائية، فإنها ستتمكّن من توجيه ضربة قاصمة للمحاولات الأميركية الرامية إلى عزلها، والحيلولة دون فوزها بالجائزة الكبرى، قيادة النظام العالمي، طال الزمن أم قصر.
شراكة إستراتيجية متبادلة بين الصين وسورية
جاءت زيارة السيد الرئيس بشار الأسد إلى الصين وسط تفاعلات دولية وإقليمية متغيرة ناتجة عن الحرب الأوكرانية وتداعياتها على حالة الاستقرار والأمن الدولي من ناحية، وما نتج عنها من اصطفافات دولية تدعم طرفي الصراع من ناحية ثانية، فضلاً عن حالة التعاطي الأمريكي مع القضايا الأمنية في منطقة المحيط الهندي وإعلان الولايات المتحدة اعتبار الصين “مصدر قلق” يهدد بصورة مباشرة المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية الأمريكية في المنطقة من ناحية ثالثة. وقد أعلنت الرئاسة الصينية أن الزيارة، تأتى انعكاساً لرغبة الدولتين في إقامة شراكة إستراتيجية، ومواصلة الدعم في القضايا المتعلقة بمصالح الدولتين وتثير قلقهما، والعمل الثنائي على تعزيز قدرة سورية بشأن إعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب. وقد أعلن الرئيسان عن رفع مستوى العلاقات بين البلدين إلى الشراكة الإستراتيجية.
و يمكن القول إن أساس الثقة السياسية المتبادلة بين الصين وسورية يكمن في رفض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية، وتجلى ذلك منذ اندلاع الأزمة السورية، حيث ظلت الصين تدعم سورية بقوة في الدفاع عن سيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها، وصوّتت مرات عديدة ضد القرارات المتعلقة بسورية التي اقترحتها الولايات المتحدة في مجلس الأمن الدولي، وهو أمر نادر للغاية في تاريخ الدبلوماسية.
وتدعم الصين بقوة الشعب السوري في إتباع طريق التنمية المناسب لظروفه الوطنية، وتدعم السياسات والتدابير التي تعتمدها الحكومة السورية بهدف حماية الأمن والاستقرار والتنمية الوطنية، وتعارض تدخل القوى الخارجية في الشؤون الداخلية لسورية وتقويض أمنها واستقرارها، وتحث الدول المعنية على الرفع الفوري لجميع العقوبات غير القانونية المفروضة الأحادية الجانب ضد سورية. وبالمقابل، تدعم سورية الصين بقوة في القضايا التي تتعلق بالمصالح الأساسية للصين، مثل مسائل تايوان وهونغ كونغ وشينجيانغ.
وبالإضافة إلى الدعم السياسي المتبادل، عززت الصين وسورية بشكل مطرد التعاون الاقتصادي. وبعد اللقاء بين الرئيسين، شهدا التوقيع على عديد من وثائق التعاون الثنائي بما يشمل التعاون في بناء “الحزام والطريق” والتواصل حول التنمية الاقتصادية والتعاون الاقتصادي والتقني. وعلى مدى السنوات الماضية، دعمت الصين سورية في تطوير اقتصادها وتحسين معيشة الشعب.
علاوة على ذلك، واصلت الصين تقديم المساعدات الإنسانية لسورية وقدمت مساهمات كبيرة للتخفيف من الكارثة الإنسانية التي يعاني منها الشعب السوري. ففي السنوات الأخيرة، قدمت الصين لسورية أنواعاً مختلفة من المساعدات، بما في ذلك اللقاحات والمواد الغذائية والحافلات.
وهكذا تعد زيارة الرئيس الأسد للصين خطة إستراتيجية ذات أهمية تاريخية، وسوف تدفع العلاقات بين الصين وسورية إلى مستوى جديد، وستساهم أيضاً في إعادة التوازن والاستقرار إلى المنطقة، وتشكيل عالم متعدد الأقطاب.