التّرجمة وأثرها في الحركة الأدبية والمذاهب النّقدية
نجوى صليبه
“هل كانت التّرجمة عرّابة الرّواية العربية بامتياز؟” سؤال تطرحه الدّكتورة ثراء الرّومي وتبحث في إجابته فتقول: “يرى كثير من النّقاد أنّ فنّ الرّواية لم يجد طريقه إلى الفكر العربي إلّا بعد انقضاء عصور الانحطاط، ومع غزارة التّرجمات التي خلقت حالة من المثاقفة بدأت الرّواية العربية تتخلص من تلك القيود كمركب محكوم بالغرق إن لم يلقِ ببعض أحماله ليتسنى له أن يشقّ عباب الماء برشاقة وأن يغترف من روافد التّرجمة تقنيات وأساليب جديدة، ففي محاكاتها للبنية الفنّيّة في الرّواية الغربية يعدّ البعض رواية “زينب” لمحمد حسنين هيكل باكورة الرّوايات الفنّية العربية في العصر الحديث، تلك الرّوايات التي شكّل الرّيف مادّة خصبة لسرديّتها الواقعية، كما يعدّ آخرون روايات جورجي زيدان وفرح أنطون عتبةً انطلق منها هذا الفنّ، وقد نهلت أفكارها من الّتراث التّاريخي وحفلت بواحات من الحكايات الرّومانسية التي واكبت السّرديات التّاريخية الجامدة، ولا ننسى رواية طه حسين “الأيّام” وما أبدعه لاحقاً نجيب محفوظ، مستشهدةً بما قاله النّاقد شكري عزيز الماضي وحصره الرّواية العربية في ثلاثة سياقات: التّقليدية والحديثة والجديدة، موضّحةً: “التّقليدية حرّرت العربية من قيود السّجع والبلاغة الشّكلية على الرّغم من فقر بنيتها ومحتواها، والحديثة امتلكت أدوات فنّية متفرّدة نهلتها ممّا وصفه بـ”ثوبها الغربي العربي”، ربما كانت التّرجمة هي العتبة التي انطلقت منها الرّواية العربية وحلّقت إلى مصاف العالمية في زمن قصير نسبةً إلى التّجربة الغربية، لكن من الإنصاف التّأكيد على أنّ الموروث الشّعبي الذي يتجذّر في ذاكرة كلّ عربي أغنى هذه التّجربة ومدّها بروافد إبداعية ساهمت في صقلها وتفرّدها وانفتاحها على الآخر”.
ولا يقصد بالانفتاح على الآخر التّعرف عليه فقط، بل وتطبيق أفكاره الإيجابية في سلوكنا، على اعتبار أنّ التّرجمة جسر تغيير المجتمع كما يقول الدّكتور عدنان عزوز، ويضيف: “لقد كان لرفاعة الطّهطاوي دوراً بارزاً في النّهضة المصرية والعربية، إذ أنّه يعدّ رائد التّجديد والحداثة في مصر والعالم العربي، كما أنّه ساهم في حمل شعلة تحرّر المرأة في العالم العربي في القرن التّاسع عشر عبر ترجمته لعمل “حقوق المرأة وواجباتها” للكاتبة الفرنسية “أوليمب دو جو غيه” إلى العربية، حيث قدّمت الكاتبة فيه أفكاراً تناقش مكانة وحقوق المرأة في المجتمع والعائلة ومن ثمّ ضرب الطّهطاوي مثالاً حيّاً بشخصه، إذ عمد إلى كتابة اتّفاق بينه وبين زوجته أعطاها بموجبه حرية إنهاء الزّواج في حال قيامه بالزّواج عليها أو أساء معاملتها”.
أمّا “أثر التّرجمة في الحركة الفكرية والفنية في العصر الحديث” فتبيّنه الدّكتورة زبيدة القاضي من خلال “دور التّرجمة في انتشار المذاهب النّقدية”، تقول: “عند تأسيس نظرية النّقد عند العرب في مطلع القرن العشرين تجلّت نزعة استيعاب الفكر الجمالي الأوروبي بدءاً من كتابي “الشّعر” و”الخطاب” لأرسطو، مروراً بـ”بوالو” و”ليسنغ” و”سانت بوف”، وقد تعرّفت نظرية الأدب العربي الجديدة على جميع الاتّجاهات الأدبية الرّئيسية عن طريق التّرجمة فأسّست ما يتناسب ومنظومة المصطلحات الأدبية والنّقدية التي دخلت إلى المعاجم الأدبية العربية، مثل الكلاسيكية والرّومانتيكية والواقعية والطّبيعية والفنّ للفنّ والرّمزية، وقد انتقلت معظم هذه الاتّجاهات وراجت في الأدب العربي في القرن العشرين ونمت على أرض عربية تتناسب والفكرة والمنهج وطرق التّطوّر، وبدأ كلّ ما ورد إلينا في مجال النّقد الأدبي بدءاً من عشرينيات القرن الماضي، ففي عام 1921 خرج إلى النّور في مصر كتاب “الدّيوان” للنّاقدين شكري والمازني، وتشكّلت على أساس منه مدرسة نقدية ـ تحمل هذا الاسم ـ لعبت دوراً مهمّاً بالتّحديث في الأدب، متأثّرةً بالأعمال الغربية التي وصلت إليهم عن طريق التّرجمة، كما نشأت في الوقت نفسه مدرسة نقدية أخرى في مدرسة المهجر، ومن منظّريها ميخائيل نعيمة الذي يرتبط باسمه تطوّر منهج الواقعية النّقدية في الأدب العربي، ويبرز تحليل التّطوّر الفكري النّظري النّقدي عملية التّغيير الشّعري والحداثة في القرن العشرين، وتجلّى هذا التّجديد في تطوّر الشّعر وبروز مصطلحات جديدة مثل “الوحدة العنصرية”، وظهر ذلك أيضاً من خلال المبادئ النّظرية للنّقد كما في كتاب “الغربال” ومصطلح “الشّعر الحرّ” الذي صدر عام 1945″، مضيفةً: “من أهم المشكلات التي واجهت نظرية الأدب والنّقد العربي في القرن العشرين: المثاقفة التي تحدّث عنها عدد من النّقاد، وأشار عبده عبّود إلى ضرورة انفتاح النّقد الأدبي العربي الحديث على الاتّجاهات والمناهج النّقدية الغربية وتفاعله معها واستيعابه لها، وهذا دليل على صحّة وقدرة في التّطوّر وأنّ هذا العصر هو عصر التّبادل والتّواصل الثّقافي ومن الطّبيعي ألّا يتحقق إلّا عن طريق التّرجمة”.
بدوره، يضيف الدّكتور غسان السّيّد ـ مديرية التّأليف في الهيئة العامّة السّورية للكتاب: “واجهت النّقد العربي الحديث مجموعة من التّحديات التي كان عليه أن يواجهها دفعة واحدةً، أوّلها: إعادة تفسير النّصوص العربية القديمة في ضوء المعارف الحديثة بعد أن ظهر عجز النّقد العربي القديم عن تقديم أي جديد على هذا الصّعيد، وثانيها: تقويم التّجربة العربية الحديثة المرتبطة بعوامل فردية وجماعية، لقد تأثّرت الحركة الشّعرية العربية الحديثة بنظيرتها الغربية، ما أدّى إلى إبداع أشكالٍ شعريةٍ لم تكن موجودة في الشّعر العربي القديم، وكان لا بدّ أيضاً من الإفادة من الأدوات المعرفية الغربية في تفسير هذه الظّاهرة شكلاً ومضموناً ولهذا علاقة بثالث التّحديات، عندما دخلت أجناس أدبية جديدة إلى الأدب العربي مثل القصّة والرّواية والمسرح، التي تحتاج في تفسيرها إلى مناهج معرفية جديدة، كان على النّقد العربي الحديث أن يستفيد من تجربة النّقد الغربي ويتسلّح ببعض أدواته المعرفية التي تطوّرت تطوّراً كبيراً بفعل تطوّر العلوم الحديثة المختلفة”.
نعم تتطوّر العلوم بشكل سريع، ولا نجد مفرّاً من مواكبتها، لكن ما هو أثر التّرجمة في العولمة؟ سؤال تجيب عليه آلاء أبو زرار وتقول: “مع تطوّر الوسائل التّقنية الحديثة صار بإمكان أي عميل يجلس في مكان ما من الكرة الأرضية الوصول إلى المترجم المناسب له مهما بعدت المسافة بينهما، إذ تؤدّي شركات التّرجمة دوراً فعّالاً في الرّبط بين المترجم وعميله، ما يساهم في تسريع عجلة العولمة نتيجة قدرة المترجم على الوصول إلى أسواق كانت في الماضي معزولةً عنه ومجهولةً لديه، وتالياً تعزيز الرّابط الموجود بين مختلف الثّقافات، وإن نظرنا في الفرق بين التّرجمة والعولمة نجد أنّ التّرجمة تهدف إلى الوصول إلى صيغة تفاهم بين النّاس، في حين أنّ العولمة تتعامل مع الثّقافات واللغات، لكنّها تجعل هذا التّفاهم مقتصراً على لغات معينة وعلى تقاليد ومبادئ القرية الدّولية، ونؤكّد دور التّرجمة في العولمة إن لاحظنا أنّ التّرجمة تشكّل مع اللغات المشتركة بين الأمم بنية تحتية أساسية لتحقيق التّواصل العولمي”.
لكن ـ وكما يعرف الجميع ـ لم يمنع التّواصل العولمي لحكومات بعض الدّول من الاعتداء على دول أخرى وفرض حصار اقتصادي وسياسي، يعيش المواطنون على اختلاف فئاتهم وأعمالهم تبعاته ومن بينهم المترجم السّوري، تقول كاتبة وجيه كاتبة في رسالة المترجمين السّوريين: “نعمل بكلّ جهد لتحقيق طموحاتنا وأحلامنا للنّهوض بواقع التّرجمة في سورية، عملنا في أوقات الشّدة كما كلّ السّوريين الذين يعانون آثار سنوات الحرب والصّعوبات الاقتصادية نتيجة قانون قيصر الجائر والعقوبات المفروضة على بلدنا ظلماً وعدواناً”.
إذاً من حقّ الجميع أن يسأل عن جدوى التّرجمة في هذا العصر، يوضّح الدّكتور عقيل محفوض: “ماذا تفعل التّرجمة في عصر التّحولات والتّدفقات الكبرى؟ سيولة القيم وتغيّر المفاهيم والولاء والانتماء وتغيّر معنى الإنسان والسّياسة والوطن والعدو والصّديق؟ ما فائدة ترجمة أحدث ما توصّل إليه الآخر من أفكار إذا لم يكن ثمّة قابلية لأن يتحوّل ذلك إلى سياسات فعلية تغيّر ما نحن فيه؟ بل ماذا تفعل التّرجمة إذا كانت بقصد أو من دونه تحويلاً لقيم لا تصلح لمجتمعنا وسياستنا وعالمنا؟”.
إذاً نحن أمام تحدّيات كثيرة ولا بدّ من عدّ العدّة لها، يقول حسام خضور: “إن كانت ستخرج النّدوة بتوصيات فأقول إنّ إنشاء المركز الوطني للتّرجمة حاجة وطنية لتوفير البنية التّحتية المستقلة للتّرجمة وإقامة اتّحاد للعاملين في التّرجمة له نظامه داخلي يوفّر البنية القانونية لهذه المهنة التي تتوسّع تلبيةً لحاجة مجتمعية وطنية في شتّى حقول المعرفة، ومهنة التّحرير غدت حاجة في مهنة الكتابة ترجمةً وتأليفاً، وأتمنى أن تكون الهيئة العامّة السّورية للكتاب من يضع الأساس القانوني لهذه المهنة التي تمارس في الواقع من دون الاعتراف فيها”.
توصيات أيّدها البعض بل وزاد عليها أنّ الهيئة العامّة السّورية للكتاب قد تكون المؤسّسة الوحيدة التي لديها خطّتها في هذا المجال، يقول مدير الهيئة الدّكتور نايف الياسين: “في الهيئة نولي التّرجمة اهتماماً كبيراً ضمن الإمكانيات المادية والبشرية المتاحة، ونحرص من خلال الخطّة الوطنية للتّرجمة على اختيار الكتب المتميزة التي تتناول أحدث الاتّجاهات الفكرية والأدبية المعاصرة لننقلها إلى القارئ العربي”.
عناوين كثيرة ومهمّة وواسعة ومتشعبة قدّمها المشاركون في النّدوة الوطنية للتّرجمة 2023 التي أقيمت في مكتبة الأسد، برعاية وزارة الثّقافة وتعاون مجمع اللغة العربية واتّحاد الكتّاب العرب واتّحاد النّاشرين السّوريين وجامعة دمشق والمعهد العالي للتّرجمة، ولاسيّما أنّها جاءت على شكل بحوث مصغّرة ومختصرة ومفيدة في الوقت ذاته، وذلك التزاماً منهم بالوقت المخصّص لكلّ مشارك.