شمس صغيرة ..لنا!
الآن، وبعد مرور الأيام السبعة على ما حدث في فجرية يوم السبت، 7 تشرين الأول 2023، يحدّق الجميع، الأقربون، والأبعدون، في مرآة الفعل الفلسطيني الذي أراد تجسيد حلم لفّ الحياة الفلسطينية منذ 75 سنة، كيما يروا الفجر وقد تحرّر من غبشة العتمة، والأرض وقد تحرّرت من الحصار والضيق والحواجز، والهواء، وقد خلّص نفسه من روائح البارود، والعقل وقد غادرته ثقافة الإخافة، والترويع والتهويل، والخُطا وقد محت شلل 75 سنة بالتمام والكمال، مثلما يحدق الجميع في الترسيمات التي حكمتها سلوكية المحتل الإسرائيلي، وقد قيّدته الصدمة وهولها، وحبست أنفاسه المفاجأة وما فيها من خارقية، وغيّبته الحيرة حتى ما عاد يعرف أهو في ليل أم نهار، ولا يعرف إن كان في واقع أم كابوس.
الآن، يحدّق الجميع في المرآة كيما يعرفوا جوهر الخبر الطالع التي طارت به الأنباء: الفلسطينيون يريدون الحرية، وها هم يسعون إليها، فيكسرون غلاف غزة بالإرادة واليقينية والخُطا ونورانية الحق، إنهم يمشون إلى حلم الأجداد والآباء الذي قال منذ 75 سنة، الأرض لنا، وتاريخها تاريخ زراعة، وعشق، ومواسم، وكتب ثقيلة عرّفت الدنيا كلّها بالمحبة، والصلوات، والفرح، والتدوين، والأشجار التي غوّرت بعيداً بجذورها، والمعاني التي غوّرت بعيداً في سهرها وحراستها لتصير قلادة واحدة من رأس الناقورة إلى أم الرشراش، ومن عكا جارة البحر وخدينته إلى أريحا أم القرى والأسوار والنخيل وجبال الملح.
إنهم جميعاً، يحدّقون في المرآة كيما يروا نهاية الظلموت الذي ربّاه المحتل الإسرائيلي منذ 75 سنة، ليجعلوه كتاب الترويع والتهويل والقتل والفقد والإماتة، ها هي سجون المحتل بادية مكشوفة عارية متخففة من أقفالها، وظلمةِ زنازينها، وها هي حواجزه تتمتم ما تبقى من طقوس الموت والقهر وشلّ الخُطا وتسويد وجوه الحياة، وها هي قوته البادية في أسلحته تشير إلى قوة امتلكتها إسبارطة ذات وقت، وقد زالت وأمّحت، وإلى قوة راعبة، وثقافة رعب وتهويل امتلكها نابليون بونابرت، فزالت وأمّحت عند ارتطامها بأسوار عكا، وها هو ظلموته وعسفه وانغماسه في الدم منذ 75 سنة، يدفع بصورته لتؤاخي صورة الخنزير البري الذي عربد وصال وجال، حتى أرداه تموز بالضربة البيضاء، كيما تعود الأيام والشموس والأقمار إلى دورتها وفطرتها، وكيما تصير الأرض طفلة الكروم التي تغني وتطير داخل أقفاص الهواء.
أجل، ها هي الصورة واضحة وأكثر، لقد أخذ الفلسطينيون حصتهم من انتظار فجرهم المحلوم، وأخذ المحتل الإسرائيلي حصته من سفك الدماء، وتدمير القرى، وحرق الكتب، وطيّ القيم، وإشاعة الخوف، والتفاخر بالقوة التي تباهى بها شمشون، وقد جاءه فجراً من يقصّ شعره جزّاً.
ها هم الفلسطينيون، الذين حلموا بعودة الأرض والحرية.. يعانقون حلمهم غمراً بالذراعين، وها هم المحتلون، وفي لحظة لم يتوقعوها، يرتطمون بخوفهم الذي تهرّبوا منه زمناً مدته 75 سنة، والطرفان في وقت واحد، ووقوف واحد أمام ديمقراطية الزمن الذي دار ليبدي للفلسطينيين خاتمة السهر الطويل، والتعب الجميل، والانتظار المُرّ، والشوق العزيز، مثلما دار ليبدي للإسرائيليين خواتيم القوة ومآلاتها، وما خلّفته من أسى وندم، ومقابر!
كلُّ شيء، وفي ساعة الجهر بالحقيقة، جلي وواضح، بالصوت والصورة، والشكل والمعنى، فلا ديمومة للقهر ما دامت الكتب حافظة لخرائط الوجدان، ولا ديمومة للقوة التي تقوم على الزيف والتلفيق والكذب وزهق الأرواح، وشراء الذمم، ولا ديمومة للضعف، لأنّ الضعف كره وشوك مآلهما الطيّ والزوال.
الآن، بعض الخلق، هنا وهناك، لا يريدون تصديق ما يرونه وما نراه، ولا الإقرار به، لأنّ القوة العمياء التي يتحلون بها ستأخذهم قوداً ومرغمين إلى الارتطام بما يجهلونه عن قوة الشعوب، إنهم لا ينظرون إلى الوراء، بسبب استدارة رقابهم، ليعرفوا ماذا حفظ التاريخ من الدروس والمعاني والنتائج لما حدث في الجزائر بعد احتلال لها دام سنوات طوالاً من القهر والمحو والتحييد، وما حدث في فيتنام في زمن قنابل النابالم، وما حدث من عنصرية شائهة في جنوب إفريقيا؛ إنهم لا يريدون مواجهة النور،وقد عاشوا حياة العتمة واعتادوها، لهذا لم يعرفوا طعوم الحرية، ولم يروا ألوان الفرح، ولا معاني الكرامة التي تنبت وتكبر وتثمر بهدوء ورواء مثل الشجر!
الآن، العالم كلّه يمرّ أمام مرآة الفلسطينيين، ليس مواقفةً لفعلهم البهي وحسب، بل ليرى حالة العماء واللامبالاة التي لفّته طوال 75 سنة، ويرى أيضاً الظلم الذي وقع على الفلسطينيين، قهراً وقتلاً، وهم على مبعدة ذراع منه!
الآن، ثمة شمس صغيرة بحجم وجه سيدنا الجليل، آبدة في ضوئها، تعلو بلادنا الفلسطينية العزيزة، على نحو يكفي كي يرى العالم صنيع أبنائها في 7 تشرين الأول2023 في يوم سبت شغول مثل نحل بري يصنع شمعه وشهده على مهل وريث شديدين!
حسن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com