رقصة الموت المروعة
سمر سامي السمارة
بمجرد أن تصبح الشوارع والمباني السكنية، المشافي والمدارس والعيادات الطبية هي الأهداف “المشروعة” للقصف الغاشم، تصبح القاعدة الوحيدة التي يجري تطبيقها هي قتل كلّ ما يتحرك.
فالحديث عن المناطق الآمنة، والتطمينات المتعلقة بحماية المدنيين، والوعود بشنّ غارات جوية “جراحية” و”مستهدفة”، وإنشاء طرق إخلاء “آمنة”، والتفسير السخيف بأن الضحايا المدنيين “وقعوا في مرمى النيران المتبادلة”، والادّعاءات بأن المنازل والمباني السكنية التي تمّ قصفها وتحويلها إلى أنقاض كانت مأوى للإرهابيين، ليست إلا جزءاً من الغطاء الخطابي لتنفيذ المجازر العشوائية.
في حال غزة -القطاع الصغير المكتظ بالسكان- من المؤكد أن النتيجة الوحيدة لهجوم بري وجوي إسرائيلي ستكون الموت الجماعي لأصحاب الأرض الحقيقيين، أولئك الذين أطلق عليهم وزير الاحتلال الإسرائيلي يوآف غالانت مسمّى “الحيوانات البشرية”، ودعاهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بـ”الوحوش البشرية”. ولم يتردّد عضو الكنيست الإسرائيلي تالي جوتليف باقتراح إسقاط “أسلحة يوم القيامة” عليهم دون أي رادع أخلاقي، وهم أيضاً من رفض رئيس الاحتلال الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ الدعوات لحماية المدنيين منهم.
بينما كان سكان شمال غزة يتدافعون بحثاً عن الأمان وسط القنابل والتهديد بغزو بري محتمل، قال هرتزوغ رداً على سؤال خلال مؤتمر صحفي حول الإجراءات التي تتخذها “إسرائيل” لتجنّب قتل المدنيين الذين يعيشون في غزة: “الخطاب القائل بأن المدنيين غير متورطين غير صحيح، ليس صحيحاً أن المدنيين غير ضالعين في الأمر فهم ضالعون من خلال عدم الانتفاض على المقاومة في غزة”.
إن مطالبة إسرائيل بإخلاء 1.1 مليون فلسطيني -ما يقرب من نصف سكان غزة- من شمال غزة، والتي ستصبح منطقة إطلاق نار حرة، تتجاهل حقيقة اكتظاظ الحدود وعدم وجود ملاذ آمن لهم، ومن المؤكد أن الاحتلال الإسرائيلي من خلال استخدام آلته العسكرية ضد سكان لا يملكون وحدات ميكانيكية وقوات جوية وبحرية، وصواريخ، ومدفعية ثقيلة، وأنظمة القيادة والسيطرة، فضلاً عن التزام الولايات المتحدة بتقديم حزمة مساعدات عسكرية بقيمة 38 مليار دولار لـ”إسرائيل” على مدى العقد المقبل، لن يمارس “الحق في الدفاع عن نفسه” كما يدّعي.
إنها إبادة جماعية للمدنيين المحاصرين منذ 16 عاماً في أكبر سجن مفتوح في العالم، لقد تمّ تسوية غزة بالأرض وتدميرها وتحويلها إلى أنقاض، وسيُقتل أو يُصاب أو يُترك مئات الآلاف من سكانها الفقراء بلا مأوى، ودون طعام ووقود وماء أو مساعدة طبية.
وللإشارة، فقد اضطرت وكالة الأمم المتحدة للإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” إلى إغلاق 14 مركزاً لتوزيع المواد الغذائية، ما حال دون حصول أكثر من نصف مليون شخص على مساعدات غذائية، كما نفد الوقود من محطة الكهرباء الوحيدة في غزة.
وبحسب الأمم المتحدة فإن 12 من موظفيها لقوا حتفهم نتيجة الغارات الجوية الإسرائيلية، كما تضرّرت 21 من أصل 22 منشأة صحية تابعة للأونروا في غزة، في الوقت الذي تفتقر فيه المستشفيات إلى الأدوية والإمدادات الأساسية.
من المؤكد أن “إسرائيل” -كما فعلت في الماضي- سوف تمنع نشر التقارير والصور المستقلة بمجرد قيام نحو 360 ألفاً من جنودها بشنّ هجوم بري، فقد قطعت خدمة الإنترنت عن القطاع منذ أيام، كما أن اللقطات القصيرة المتعلقة بالفظائع المرتكبة سيتمّ رفضها من قبل القادة الإسرائيليين، وسيتمّ إلقاء اللوم في ارتكابها على المقاومة.
على الرغم من حرمان 2.3 مليون فلسطيني، بما في ذلك مليون طفل، من الغذاء والوقود والكهرباء والماء، وتعرّض مدارسهم ومستشفياتهم للقصف، وعلى الرغم من المجازر التي ترتكبها الآلات العسكرية الإسرائيلية ترفض الدول الغربية التدخل لوقف هذا النزيف.
إن الصور المزيفة للأطفال الإسرائيليين الذين تدَعي “إسرائيل” إطلاق المقاومة الرصاص عليهم، ما هي إلا عملة يتمّ تداولها دفعاً للمزيد من إراقة الدماء، إنها رقصة موت مروّعة بدأتها “إسرائيل” بالمذابح والتطهير العرقي الذي سمح بإقامة ما يُسمّى بـ”الدولة اليهودية”، والتي أعقبتها عقود من السلب والعنف الذي تعرّض له ولا يزال أصحاب الأرض الحقيقيين.
وبحسب المنظمات الحقوقية، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي 7779 فلسطينياً في غزة منذ عام 2000، من بينهم 1741 طفلاً و572 امرأة، ومع ذلك، فإن هذا الرقم لا يشمل سكان غزة الذين لقوا حتفهم بسبب شرب المياه الملوثة أو الحرمان من الحصول على العلاج الطبي، وحالات الانتحار لشبان أصبحوا يعانون من اكتئاب شديد مع فقدان الأمل بحياة كريمة.
تزامناً مع القصف الجوي العنيف الذي تشنّه “إسرائيل” على الأحياء المدنية في قطاع غزة، وعدت إدارة بايدن بدعم غير مشروط لـ”إسرائيل” وإرسال المزيد من شحنات الأسلحة، كما أرسلت أكبر حاملة طائرات في العالم، وهي مجموعة حاملة الطائرات الهجومية الأمريكية “يو إس إس جيرالد آر فورد” إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لردع الأعمال العدائية ضد “إسرائيل” أو أي جهود تهدف إلى توسيع نطاق هذه الحرب.
من الواضح أن الولايات المتحدة، كعادتها، تتجاهل الموت والدمار الذي يواجهه الشعب الفلسطيني، والحملات العسكرية الدورية التي يقوم بها جيش الاحتلال، كما تتجاهل هذا الهجوم العسكري، وهو الخامس الذي تشنّه “إسرائيل” على غزة خلال 15 عاماً ضد المدنيين.
يقول عالم النفس رولو ماي: في بداية كل حرب.. نقوم بالعمل على شيطنة خصمنا بسرعة، وبعد ذلك، بما أننا نحارب الشيطان، فيمكننا أن ننتقل إلى حالة الحرب دون أن نسأل أنفسنا كل الأسئلة الروحية المزعجة التي تثيرها الحرب، أو أن نفكر بأن أولئك الذين نقتلهم هم أشخاص مثلنا.
في الحقيقة، لم يعد القصف وحده ما يشكل حالة رعب، فتواطؤ المجتمع الدولي الذي يجيز المجازر الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” ويسرع دائرة العنف أصبح الأكثر رعباً!.