نعم: فلسطين هي القضية
د. عبد اللطيف عمران
مضت سنون غير قليلة، أكثرنا خلالها صار يحسب أن المشروع القومي العربي آخذ في الانكسار، وأن النظام الرسمي العربي يسهم في هذا من حيث يدري أو لا يدري، وأن المشروع (الوطني!؟) المستقل هو البديل وهو المرتجى، ظنّاً أن الناشئة العرب ستشهد ذاكرتها انزياحاً أو تناسياً لقصة الثيران الثلاثة، وأن الخطاب القومي أمسى صياغة فضفاضة لا آذان صاغية له واعية. وأن المراهنين عليه لاذوا في زوايا التاريخ والواقع الهامشية.
لا شك في أن لهذا الحسبان مسوغاتٍ واقعيةً، خاصة بعدما أجهز (الربيع العربي) على البقيّة الباقية من الآمال، وآلت مخرجاته إلى ما آلت إليه من نكوص وخذلان ويباب في البنى المادية والمعنوية العربية، وهذا من قبيل بؤس الحساب، وضعف الرؤيا، والرؤية. فلا يمكن إلّا أن يبقى العرب أصحاب حقوق وواجبات، وحضارة وتاريخ ومستقبل، رغم العثرات والهِنات والأخطاء. فعلينا أن نعي بدقّة وتبصُّر اليوم، وأمس، وغداً أن : (الطارىء ليس العدوان، لكن الطارىء هو تفوق الصهيونية على نفسها في الهمجية).
إن الحديث عمّا يجري اليوم في غزّة مهم وضروري وواجب، لكن هذه الضرورة تتعزز بوعي السياق الزماني والمكاني للصراع العربي الصهيوني، الذي لا يجوز تجزئته، وفصل محطاته عبر هذا السياق بعضها عن بعض، فالرؤية الصهيونية الوحشية لا تميّز بين عربي وآخر، ولا بين عرب اليوم، وعرب التاريخ، فالهدف إغلاق الأفق الحضاري للعروبة والإسلام والمسيحية، ومن هنا يتأكّد أن اختزال الصراع بين الصهيونية والعروبية بحامل الدبلوماسية الروحية الأبراهامية وملحقاتها ومستلزماتها هو رهان على أقل وأسخف من شراء سمك في البحر.
فالمسألة ليست مسألة حوار، ولا سجال بين توصيف سلام أو استسلام، مقاومة أو تطبيع، غزة أم حماس، جنوب أم شمال… بل هي مسألة أرض ومقدسات، حقوق وقضايا، مصير ووجود، ليس سببها طارئاً كما اقتبسنا أعلاه، بل استلهمنا بعضاً من عبارات كلمة السيد الرئيس وأفكارها في القمة العربية الإسلامية الاستثنائية في الرياض بالأمس، إذ بعد عقود من الزمن: (لا الأرض عادت، ولا الحق رجع، لا في فلسطين، ولا في الجولان).
واليوم غزة في القلب، وقبلها شهداء دير ياسين، وصبرا وشاتيلا، ومجزرة مدرسة بحر البقر… إلخ، فلا قدس شرقية، أو قدس شريف بمفرده، لأن كل أرض عربية محتلة هي شريف وشرف الأمة، إنما غزة اليوم شاهد متجدد على النزوع الصهيوني الوحشي العام والعارم المستدام، غير المنقطع وغير المعزول عن السياق الصهيوني، في وقت صار فيه حديث السلام مع هؤلاء مخادعة للنفس، وتناسياً لدماء الشهداء وللجراح النازفة الفاغرة طيلة عقود، وصدوداً أمام تلقّي الناشئة الذين باتوا على يقين أن: (فلسطين هي القضية) وهي جرحٌ ينزّ على مدى الأيام، وعقيدة لا يفتر تلظيها في وجدان الشبّان الميامين قبل العشرين من العمر. إذ: (لا وجود لشريك، ولا لراعٍ، ولا لمرجعية، ولا لقانون).
فغزة اليوم (تجسيد للقضية ولجوهرها، وتعبير صارخ عن معاناة شعبها….. وبإرادتنا فقط، وبالرأي العام الشعبي الجارف في بلداننا، وبما فرضته المقاومة الفلسطينية من واقع جديد في منطقتنا… نغيّر المعادلات). من هنا تعيدنا كلمة الرئيس الأسد إلى المقولات الكبرى لآباء العروبة التي لا يمكن أن تتعايش مع أي محطة من محطات المشروع الصهيوني التي طالما شكّلت عائقاً كبيراً يحول دون تقدم العرب والمسلمين وتوحّدهم وتطورهم الحضاري، فالكلمة هي امتداد للتراث التحرري العربي الذي يعي أبعاد مرامي (فلسطين هي القضية) باعتبارها جوهر صراع ممتد في التاريخين الحديث والمعاصر.
في الرياض كان الرئيس الأسد رجلاً عروبياً شامخاً يقرأ الخارطة السياسية الراهنة في المنطقة والعالم بعمق، ويستحضر خلاصة التاريخ البعيد، والمستقبل القريب ليبني على أساسيهما الرؤية والموقف السليمين والفاعلين للخروج من دوامة التوحّش الصهيوأطلسي، وهذا هو وعي الصراع الذي يُبقي رغم كل الصعوبات على حالة الأمل والفعل، العمل والتفاؤل، التي تميّز المقاومين الحقيقيين.
كان الاختزال في معرض الكلام سيّد التعبير.. فالإيجاز سمة بلاغية تنهض من أن «خير الكلام ما قلَّ ودل» ويضيف عليه المتصوفة من أصحاب الذوق والإشارة «ولم يَطُل فيُمل»، فتحقق في الكلمة حضور السياسي، والبناء على (الثقافي) الذي هو حضاري بالمحصلة، وفي هذا إرهاق لسرديّة كيان الاحتلال بوحشية الصهيوني الحاضرة فيه واللازمة لحياته، هذا «الثقافي» الحاضر في الكلمة توافرت لصرحه تقنيات أسلوبية في القول وفي العقل، بين المسند والمسند إليه، بين فعل الشرط وجوابه…. وبما يختزل سرديّة الصراع، فيستحضرها ولا يغيّبها، ما يحيلنا في المبنى وفي المعنى، في الذهنية والسياق إلى قول سيادته بُعيد تحرير حلب: (إن ما يحدث هو كتابة للتاريخ).
فلننتظر مآل البيان الختامي للقمة تلك الرامي في بعض فقراته «العديدة» إلى سلام ينتهي معه (الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة عام 1967).